عبير العلي

كانت الحرية هي أقصى طموح أيلان وكل من ركب مخاطر البحر، أو خاض قسوة المفازات نحو بلاد يظنون أنها ستحفظ ما تبقى لهم من إنسانية، ولكن ألن يكون طعم الحرية أشهى في أوطانهم؟ ما زلنا نتابع من الذي سيأتي لاحقا وينتزع مسمار الخلاص

&
هكذا يبدأ المشهد:
ظلام دامس تتلاشى معه خطوط ملامحه السمراء، وهواء لزج ذو رائحة حادة، متعطنّة تستشعرها من خلف الشاشة تُشبه رائحة الموت، تتساقط قطرات ساخنة على خديه، ربما هي قطرات عرق أو دموع، أو بعض رذاذ المطر الذي يصل قسرا إلى ذلك القبو المظلم أو مزيج بينها.. تتسارع أنفاسه وهو في محاولة لا تعلم كم طال مداها يحفر برؤوس أصابعه التي بدأ الدم ينزّ منها، يحفر سارية خشبية ليخرج مسمارا طوله سنتيمترات قليلة كان يمثل له الخلاص. وميض البرق يضيء له المكان لبضع ثوان ثم يختفي وهو يسرع في المحاولات حتى يمسك بالمسمار أخيرا بمشاعر تتعثر بين الفرح والخوف والغضب، ويدس رأسه في القفل الذي يحكم التفاف سلاسل صدئة حول جسده، يحركه بعشوائية ليكسب وقتا أسرع للخلاص من القيد. كل هذا والظلام والرائحة الرطبة المحملة بملح الدمع والبحر تحيط به، ووميض العشرات من الأعين تحدق في الظلام باتجاه الصوت الذي تصدره محاولات المسمار الملطخ بدم أصابعه لفتح القفل. يفتحه أخيرا، ويندفع حاملا مسماره نحو الأقفال الأخرى التي تحيط رفاقه المقيدين معه والتي تنوء بحمل تعبهم وعريّهم وخوفهم، سفينة شراعية تشق عرض المحيط باتجاه المجهول.


دارت معركة غير متكافئة على ظهر السفينة بعد ما اندفع الرجال الذين أفلتوا من قيودهم نحو سجانيهم، استطاعوا القضاء عليهم جميعا، وأبقوا على حياة اثنين منهم؛ لقيادتهم نحو بلادهم التي اختطفوهم منها حتى يتم بيعهم كرقيق. ما حدث أن أمواج البحر المتلاطمة قادتهم إلى سواحل أميركا، وهناك بدؤوا فصلا جديدا من عذاب العبودية حينما أصبح التعامل معهم كسلعة، أو بضائع مفقودة يدعي ملكيتها أطراف مختلفة.
ولكن العالم ليس بذالك السوء الذي يبدو عليه، فقد انبرى محام شاب للدفاع عن هؤلاء العبيد الذين لا يعلم من أي دولة هم ولا أي لغة يتحدثون بها، حاول كثيرا مع أشخاص آخرين، كان فيها الرجل الذي انتزع المسمار من السارية الخشبية في سفينة (Amistad) الشراعية، قد أصبح رمزا للبطولة والشجاعة والجرأة بين رفاقه بعد أن كان مزارعا عاديا آمنا في بلاده، وملفتا للأنظار أمام المحكمة الأميركية حينما نطق لأول مرة باللغة الإنجليزية بطريقة هشّة: (GIVE US FREE) وصرخ بها ومن بعده رفاقه بطريقة مؤثرة محاولا انتزاع حقهم في الحرية والحياة.


هذه المشاهد من الفلم الذي أخرجه المخرج الفذ ستيفن سبيلبرج عام 1997، وأداه العباقرة أنطوني هوبكنز، وموريجان فريمان، وماثيو ماكوهوني، والبطل الأسمر ديجمون هونسو عن قصة حقيقية كانت سببا في نهاية تجارة الرقيق في العالم الحديث، كانت تمر صامتة بالطريقة نفسها التي اعتمدها المخرج "الفيد باك" وأنا أشاهد مشهدا آخر قريبا من أحداث سفينة "أميستاد" الإسبانية التي حُملت عنوة بأشخاص تنوي أن تسلبهم حريتهم وتبيعهم بأثمان بخسة، ولكنه هذه المرة في بحر قريب شمالا حيث أكون، تحوّل بعدما عُرف بالبياض إلى حوض من الموت، وشخوصه يتزاحمون في قوارب خشبية متهالكة أو قوارب مطاطية ضيقة، يهربون بما تبقى لهم من حياة نحو أحلام قد تكون موجة غادرة لهم من أنفاسهم أقرب. الفرق أن الرقيق في سفينة أميستاد كانوا قد أبحروا لتُسلب منهم حريتهم، بينما في المشهد الآخر أبحروا بحثا عن حريتهم.. الأبطال في المشهد الأخير كثيرون ولهم أسماء مختلفة، أتوا من جهات عدة، من أفريقيا وآسيا، ولكن يكاد يجمعهم ملمح واحد يصب في عرق عروبتهم أو إسلامهم، ومن قادهم نحو هذا الفرار عرب ومسلمون مثلهم!
البطل الأخير للقصة هذه الأيام كان صغيرا جدا، غضا حد أن الإنسانية تلوم بعضها على أن تركته يواجه هذا المصير، أن يهرب من العبودية إلى الحرية، وهو الذي لم ينطق بعد هذين المصطلحين ولم يدرك معناهما. كان اسمه يشبه الأيائل البرية الحرة حيث يعيش، وملامحه بيضاء كالأنهار المتدفقة في بلاده التي غادرها رغما عن براءته، "أيلان" كان أنيقا جدا وهو يضع خده على الشاطئ ليكون ظهوره لائقا كما يجب أمام فكرة الهرب نحو "الحرية" وأمام وميض "فلاشات" العالم، وهي تغص بالأخبار عنه هذه الأيام وستنساه سريعا كما نسيت الأطفال الذين تسحقهم البراميل المتفجرة والألغام والصواريخ في جهات عربية مختلفة. بطل مشهد اليوم الذي ربما رحمته موجة حنون وقادته للشاطئ حتى لا يكون طعما للأسماك، أدى الدور ببراعة ووخز ضمير العالم لوقت لا نعلم كم سيطول، فقد سبقه ركام من الجثث في قاع البحر ذاته، وآخرون نهشت أجسادهم الأسلاك الشائكة، أو ماتوا بين جدران صفيح بارد متراكمين على بعض في عربة تستخف بإنسانيتهم بصور دواجن على أبوابها.


لقد كانت الحرية هي أقصى طموح أيلان وكل من ركب مخاطر البحر أو خاض قسوة المفازات نحو بلاد يظنون أنها ستحفظ ما تبقى لهم من إنسانية، ولكن ألن يكون طعم الحرية أشهى في أوطانهم؟
ينتهي المشهد في فيلم Amistad والبطل الرمز الذي انتزع المسمار الذي قاده نحو الحرية يقف شامخا في سفينة تشق البحر ذاته الذي ساقه نحو العذاب، ولكن هذه المرة باتجاه وطنه الذي يسمع صوت أغانيه تترد داخله رغم صخب الأمواج. لم ينته المشهد لدينا، وما زلنا نتابع بعد الفصل الذي ظهر فيه أيلان في هذا الفيلم الطويل من ويلات العرب والمسلمين من الذي سيأتي لاحقا وينتزع "المسمار" الذي قد يقود إلى الخلاص من هذا الدمار أو يكون الأخير في نعش الإنسانية.
&