صالح القلاب

لو لم يطفح الكيل ولم تتجاوز إيران كل الخطوط الحمراء، فإنه بالتأكيد ما كان من الممكن أن تتخذ المملكة العربية السعودية، المعروفة بـ«طول البال»، وبالقدرة على الاحتمال، وأيضًا بـ«الدبلوماسية» الهادئة، وإعطاء القريب والبعيد المزيد من الفرص لمراجعة حساباته وإعادة النظر، ومن المفترض أنها جارة عزيزة، قرار قطع العلاقات معها وتطرد سفيرها في الرياض شر طردة.. والمعروف أن هناك مثلاً يقول: «ما لزَّك على المرِّ إلَّا الأمرّ منه». وحقيقة، إن دولة الولي الفقيه أي نافذة للودِّ والصداقة والأخوة المفترضة إلَّا وأغلقتها فأصبح التعايش صعبًا، والتفاهم متعذرًا، فغدا أنه أصبح لا بد مما لا بدَّ منه، وكان هذا الذي جرى، والذي يصح فيه القول: «إنَّ الكي هو آخر الدواء»!!
كان الاعتقاد في فبراير (شباط) عام 1979 عندما انتصرت الثورة الإيرانية أن صفحة جديدة سوف تفتح في العلاقات العربية - الإيرانية، وتحديدًا بين دول الخليج العربي وإيران، والمعروف أنَّ احتلال الشاه السابق محمد رضا بهلوي للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى) قد زعزع ووتّر العلاقات بين دول متجاورة من المفترض أنها شقيقة وذات مصالح مشتركة تجمعها الجغرافيا، ويجمعها التاريخ المشترك الطويل والحضارة المتداخلة والمكملة بعضها لبعض، لكن في حقيقة الأمر أن ظن الناس الذين راهنوا على أنَّ الثورة الخمينية ستملأ هذه المنطقة رخاءً واستقرارًا، وأن منغصات ما قبلها ستزول وستنتهي، قد خاب ومنذ اللحظات الأولى عندما أعلن الخميني، ردًا على طلب من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بإنهاء مشكلة هذه الجزر: «إنها جزرنا، وهي فارسية، وستبقى فارسية إلى الأبد».


لقد اتضح أن «عين» هذه الثورة الخمينية التي قال عنها (أبو عمار) خلال زيارته الشهيرة لطهران بعد أقل من أسبوع من انتصارها: «إنها جعلت عمق الثورة الفلسطينية التي كانت محاصرة في بيروت الغربية يصل إلى خراسان»، لم تكن على فلسطين ولا على القضايا العربية الملتهبة والعالقة، وإنما على ما اعتبرته «قُمْ» الجديدة «المراقد والمقامات الإسلامية المحتلة»، والمقصود هو النجف، وكربلاء، والكاظمية في بغداد، ومرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وليس القدس الشريف ولا الوطن الفلسطيني السليب الذي يعتبر أرضًا إسلامية مقدسة تجمع المسلمين كلهم ولا يختلف عليها ولا حولها لا السنة ولا الشيعة.


ما كانت المملكة العربية السعودية تتوقع، رغم أنه ساورتها شكوك كثيرة تجاه نيات الخميني منذ البدايات، اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية التي كان سبب اندلاعها خطأ صدام حسين الفادح في حساباته ومراهناته وتطلَّع القادة الإيرانيين الجدد في اتجاه الغرب خارج حدود بلادهم، ولكنها عندما اندلعت هذه الحرب لم تجد بُدًّا، إنْ من قبيل الدفاع الذاتي، وإنْ من قبيل الدفاع عن أمن هذه المنطقة المستهدف، من أن تكون طرفًا غير مباشر في هذه الحرب المفروضة من قبل الإيرانيين فرضًا، وهكذا إلى أن تجرع قائد الثورة المنتصرة السُم الزعاف في 8 - 8 - 1988 وقَبِلَ بوقف إطلاق النار، وأصبحت هناك مرحلة جديدة عنوانها اعتماد طهران على تحويل العرب الشيعة في بلدانهم، وأولها العراق إلى جاليات إيرانية. وحقيقةً، إن هذا الواقع هو الذي يتجسد الآن في بلاد الرافدين وفي سوريا وفي لبنان واليمن مع عدم إغفال أنَّ النجاحات في هذا المجال محدودة، وأن كل ما تحقق هو بعض الجيوب العميلة المتمثلة في تنظيمات باتت معروفة مثل حزب الله اللبناني، ومثل الحوثيين وعلي عبد الله صالح في اليمن، و«الحشد الشعبي» في العراق ونظام بشار الأسد وميليشياته المذهبية المحلية والمستوردة من دول كثيرة بعيدة.


إن المقصود هنا هو القول إن إيران بعدما «تجرع الخميني السم الزعاف»، وتجرع الهزيمة وقبل بوقف إطلاق النار في عام 1988 غيّرت استراتيجية أطماعها وتدخلاتها في المنطقة العربية، في مشرق الوطن العربي ومغربه، وأصبح اعتمادها ليس على الحروب المباشرة والغزو العسكري المكشوف، وإنما على البؤر النائمة وعلى الجيوب الاستخبارية العميلة، وأيضًا على التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش»، و«القاعدة» التي وفَّرت، بما بقيت تقوم به من جرائم، الحجة التي يريدها نظام الولي الفقيه لاتهام العرب السنة ودولهم برعاية الإرهاب وحمايته وتوفير البيئة له.


لقد حالت إيران، إنْ مباشرة من خلال حراس ثورتها، أو من خلال جيوبها العميلة وأذرعها العلنية والسرية في سوريا والعراق ولبنان واليمن، دون القضاء على «داعش» الذي بقي يشكل مبررًا لوجودها في هذه الدول العربية الآنفة الذكر، ومبررًا للإبقاء على نظام بشار الأسد وعلى الحوثيين وعلي عبد الله صالح في اليمن وعلى الهيمنة المذهبية المعروفة المستمرة في العراق منذ عام 2003، وهنا فإنه يُفهم من هذا كله سبب ردة الفعل الإيرانية الهوجاء والعنيفة على أحكام القصاص التي صدرت في السعودية ضد 47 مجرمًا من بينهم نمر باقر النمر، ومعه ثلاثة من أتباعه، والتي وصلت إلى مهاجمة سفارة «المملكة» في طهران وقنصليتها في مشهد، وإلى استنفار «الأتباع» من تنظيمات وأفراد للقيام بحملة تشويه ضد الرياض ساهم فيها الإعلام المأجور بصورة أساسية.


لم يكن هناك أي مجالٍ إلا أن تقوم المملكة العربية السعودية بما قامت به؛ فهي بقيت مستهدفة من قبل «القاعدة» سابقًا،بالإضافة إلى «داعش» لاحقًا، وعلى مدى سنوات طويلة، والغريب والمستغرب فعلاً أن يصدر عن ناطق أميركي بيان إعلامي يقول: «إن هذه الأحكام التي صدرت ستتسبب في توترات طائفية في المنطقة»، وهذا يدل على أن هذا الناطق لا يعرف الآية القرآنية الكريمة التي تقول: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب»، وأنه ربما لا يعرف أيضًا أن كل الذين صدر بحقهم أحكام «القصاص» قد أعطوا فرصًا فعلية للعودة إلى عقولهم وللتراجع عن الطرق الدامية الملتوية التي وضعهم «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى عليها، وأنهم خضعوا لمراحل «مناصحة» طويلة، لكن عندما فشلت كل هذه المحاولات معهم كان لا بد من «القصاص» الذي قبل اتخاذ قراره من قبل محاكم شرعية كانت هناك محاكمات استمر بعضها سنوات عدة، وكان هناك محامون دافعوا عن المتهمين الذين ضبطوا متلبسين بالجرائم التي نسبت إليهم، وهكذا، وبالتالي فإنه كان: «لا بد ممَّا ليس منه بدُّ»!! والأدهى أن إيران نفسها كانت قد أعدمت آية الله العظمى محمد كاظم شريعت مداري بلا أي محاكمة.


والسؤال هنا أيضًا: هل يا ترى أن هذا الناطق الأميركي لا يعرف أن الذي تسبب في التوترات الطائفية التي أشار إليها في تصريحه هو إيران التي استخدمت الطائفة الشيعية والمذهب الشيعي بعد انتصار ثورتها الخمينية في عام 1979 استخدامًا تآمريًا في العراق وسوريا وفي لبنان وفي اليمن وفي هذه المنطقة كلها لتحقيق حلم ما تسميه استعادة تمددها الإمبراطوري الفارسي سابقًا، والصفوي لاحقًا؟ ألا يعرف هذا الناطق، حتى يبدي خشيته من أن تسبب أحكام القصاص التي أصدرتها السعودية ضد إرهابيين ومجرمين وقتلة على رأسهم نمر باقر النمر في مثل هذه التوترات التي أشار إليها، أنَّ إيران هي من تسبب في كل هذه الحروب الطائفية والمذهبية التي تشهدها سوريا ويشهدها العراق ويشهدها اليمن أيضًا، ولبنان، وأن هذا التصريح يعطيها «نفسًا» لتواصل تدخلها الشائن في الشؤون العربية الداخلية ولتواصل استخدام جيوبها الاستخبارية العميلة لإشعال نيران الحروب الطائفية، إنْ ليس في كل الدول العربية المتبقية ففي بعضها.


إن السكوت عما تفعله إيران واعتبار أن الأحكام الأخيرة التي صدرت في السعودية بعد محاكمات دام بعضها سنوات طويلة، سيتسبب في توترات طائفية سيشجع دولة الولي الفقيه على الاستمرار في محاولاتها لإغراق باقي ما تبقى من دول هذه المنطقة بالفوضى غير الخلاقة وبالاقتتال المذهبي، وكل هذا بينما المطلوب أن تعلن واشنطن أن دولة الولي الفقيه دولة إرهابية، وأنها هي المسؤولة، ومعها بالطبع روسيا، عمَّا يجري في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي لبنان، وأنَّ من يدافع عن خلايا «داعش» في الخليج العربي لا فرق بينه وبين «داعش»، وأنَّ من دفع الحوثيين وعلي عبد الله صالح للانقلاب على الشرعية في اليمن هو الذي يتحمل مسؤولية هذه الحرب المدمرة لأنه هو من بدأ التخطيط لما سمي «الهلال الفارسي»، ولأنه هو من باشر بتنفيذه والنجاح في هذا التنفيذ لولا ذلك القرار الشجاع والحكيم قرار «عاصفة الحزم».
&