لا علاقة لكيسنجر بالشرعي الوحيد ولا بالأرض «المتنازع عليها»!
صالح القلاب
بعد أكثر من أربعين عامًا بدأنا نسمع وبـ«أثر رجعي» معلومات غير مؤكدة «لا في وقتها ولا الآن» عن مرحلة من المفترض أنها غدت قديمة وأن الأحداث قد تجاوزتها، فالقول ولبعض وسائل الإعلام إن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر هو من «أبلْع» وليس «أبلغ» الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فكرة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي: «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» وأنَّ «أبو عمار» وقع في المصيدة وأصرَّ على انتزاع قرار من قمة الرباط بهذا الخصوص دون أن يعرف أن هدف صاحب هذه الفكرة هو تحويل الضفة الغربية من أراضٍ محتلة إلى أراضٍ متنازع عليها..
وحقيقة أنه لا يوجد ولو بشاهد واحد أو بقصاصة ورق صغيرة ما يؤكد أن (أبو عمار) قد ابْتلع هذا الطُعم الأميركي الذي مرره إليه هنري كيسنجر، وأنَّ كل المسؤولين العرب الذين شاركوا في قمة الرباط والذين اتخذوا ذلك الموقف التاريخي بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبمن فيهم العاهل الأردني الملك حسين، طيب الله ثراه، قد ابتلعوا الطعم نفسه الذي ابتلعه ياسر عرفات، وهذا غير ممكن ولا يمكن حدوثه ولا تصوره، خاصة أن الوضع كان يمر في حالة استقطاب شديد ربما أكثر من هذه المرحلة البائسة.
والمؤكد أن الذين عادوا لاتهام الرئيس الفلسطيني الراحل بهذه التهمة الخطيرة لا يعرفون، بحكم عدم اهتمامهم بهذه القضية في ذلك الوقت المبكر جدًا، أنَّ مصطلح: «الممثل الشرعي والوحيد» لم يبدأ مع منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكلت في مدينة القدس (الشرقية) في عام 1964 وإنما مع الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي كان مقره القاهرة والذي اتخذ قرارًا بأنه: «الممثل الشرعي والوحيد لطلبة فلسطين»، وذلك تحاشيًا لازدواجية التمثيل في هذا المجال، ولعل ما تجدر الإشارة إليه أن الاتحاد العام لطلبة الأردن، الذي كنت ثاني رئيس له بعد طيب الذكر شاهر الطالب، قد اتخذ الموقف نفسه الذي اتخذه شقيقه الفلسطيني، والسبب أنه كان هناك اتحاد طلابي منافس يتبع للحزب الشيوعي الأردني وكان قد تم قبوله بسهولة في اتحاد الطلاب العالمي (I.U.S) الذي قاد تنظيمات الحركة الطلابية في الاتحاد السوفياتي وفي دول أوروبا الشرقية ذات الالتزام الشيوعي والماركسية اللينينية وفي الكثير من دول العالم.
وهكذا فإن أغلب الظن أن ياسر عرفات الذي كان أول رئيس لرابطة الطلبة الفلسطينيين ولاحقًا أول رئيس للاتحاد العام لطلبة فلسطين، هو بالأساس صاحب فكرة «الممثل الشرعي والوحيد» هذه التي انتقلت بعد أكثر من ربع قرن من الحالة الطلابية إلى منظمة التحرير، مما يعني أن كيسنجر إمّا أنه كان عضوًا في هذا الاتحاد الطلابي الفلسطيني، وهذا مستبعد جدًا وغير معقول، أو أن هذه «الفكرة» قد نسبت إليه للانتقام السياسي من (أبو عمار) وقادة «فتح» بل من كل القيادات الفلسطينية الرئيسية، ومن بينهم الدكتور جورج حبش وزميله نايف حواتمة، والأسباب هنا واضحة ومعروفة.
كانت هناك قبل قمة الرباط المعروفة، التي اتخذت هذا القرار الآنف الذكر من دون أي إشارة لـ«حكاية» كيسنجر هذه، قمة الجزائر، التي مثل المملكة الأردنية الهاشمية فيها رئيس الوزراء الأسبق بهجت التلهوني المعروف بقربه من صاحب القرار، وذلك في حين أنَّ من مثَّل سوريا هو وزير الخارجية عبد الحليم خدام، لكن ومع ذلك فإنه لم يكن هناك أي تذكير بهذه «الحكاية» عندما وصل الانفعال بالرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين ذروته، ردًا على اعتراض أردني وسوري خجول بالنسبة لموضوع أن المنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، فطرح هذه المسألة للتصويت بصيغة: «من يعترض على أن يمثل الفلسطينيون قضيتهم؟»، وكان الجواب رفعًا بالأيدي مع تذمر خافت من قبل الممثل الأردني والممثل السوري اللذين كان لكل واحد منهما وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الآخر.. فماذا يعني هذا؟
ثم إن المفترض أنه معروف أنَّ ديفيد بن غوريون، الذي هو أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل، كان يعتبر أن نهر الأردن هو خط الحدود الآمن لهذه الدولة، وأنه كان بناءً على ذلك يتحين الفرص هو ومن جاء بعده لاحتلال الضفة الغربية كلها ومن دون أي ذكر لحكاية «الأراضي المتنازع عليها هذه»، وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الانتداب البريطاني كان قد حال، قبل أن تصبح الضفة جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية، دون مثل هذه الخطوة الإسرائيلية، حيث بعد الاندماج بين الضفتين ما كان بإمكان الإسرائيليين تنفيذ نواياهم لأسباب كثيرة وإلى إن كان ما كان وحانت اللحظة المناسبة في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، عندما وَقَعَ الرئيس جمال عبد الناصر، تحت ضغط مزايدات المزايدين وأولهم النظام السوري في ذلك الحين، في ذلك الخطأ القاتل وأعلن حربًا متعوسة.. لا هي مدروسة ولا هي ضرورية في وقتها، فكانت النتيجة تلك الكارثة التاريخية التي لا تزال مستمرة حتى الآن.. والله وحده يعلم ويعرف إلى متى؟!
وأيضًا ورغم حكاية الأراضي المتنازع عليها هذه التي لم يسمع بها ولم يتحدث عنها إلا هذا الشخص، الذي بادر إلى الترويج لها بعد وفاة ياسر عرفات باثني عشر عامًا وبعد احتلال الضفة الغربية بسبعة وأربعين عامًا، فإن المعروف أن الإسرائيليين كانوا قد قبلوا بالوصاية الأردنية على القدس الشرقية، وأنهم كانوا قد وقعوا على اتفاقيات أوسلو التي تضمنت نصًا واضحًا على قيام دولة فلسطينية في نهايات تسعينات القرن الماضي، مما يعني أن عدم تطبيق هذه الاتفاقيات ليس سببه، لا فعليًا ولا شكليًا، هذه «الحكاية» الآنفة الذكر، وأن كل ما في الأمر أن الوضع العربي قد أصيب بكل هذه الانهيارات الكارثية، وأن الوضع الفلسطيني هو بدوره قد أصبح ينشغل بكارثة الانقسام الذي نفذته حركة «حماس» بقرار إيراني - سوري بعد سنوات قليلة من مجيء الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون إلى غزة، حيث ترأس اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الذي أعلن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وكذلك فإن المفترض أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 ومع أنه لا ينص حسب الصيغة البريطانية، وفقًا لوجهة نظر الإسرائيليين، على الانسحاب من كل الأراضي المحتلة فإنه لا يعني إطلاقًا أن هذه الأراضي متنازع عليها، وهنا فإنه لا بد من التذكير بقرار الأمم المتحدة الأخير الذي نص على الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال على كل الأراضي التي احتلت في عام 1967، وبقبول منظمة «اليونيسكو» لهذه الدولة عضوًا كامل العضوية فيها وعلى قدم المساواة مع كل الدول الكاملة العضوية.
وهكذا وفي النهاية فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن مؤتمر القدس (الشرقية) الشهير (المجلس الوطني الفلسطيني الأول)، الذي انعقد في عام 1964، والذي اتخذ قرار إنشاء منظمة التحرير، كان في حقيقة الأمر مؤتمرًا عربيًا وليس مجلسًا وطنيًا، وأن الهيئة التنفيذية التي اختير الراحل أحمد الشقيري رئيسًا لها كانت تضم أعضاءً رئيسيين من الكثير من الدول العربية، ولذلك فإنه أمرٌ طبيعي ألا تطالب حركة «فتح»، التي كانت ولا تزال تقود النضال الفلسطيني، ويطالب العرب الفاعلون، وفي مقدمتهم مصر الناصرية، بأن تكون هذه المنظمة ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني في تلك المرحلة الانتقالية الأمر الذي تم تداركه في عام 1974، أي بعد عام من حرب أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة، وهو العام الذي دعي فيه ياسر عرفات لارتقاء منصة الأمم المتحدة والذي بدأ فيه الحديث جديًا عن مفاوضات سلامٍ فلسطينية - إسرائيلية على غرار المفاوضات المصرية والسورية مع الإسرائيليين.
التعليقات