سمير عطا الله
وضع في قدميه سلاسل حديدية ثقيلة لمدة أربع سنوات، في سجن أومسك، حيث كان يقضي حكمًا بالسجن مع الأشغال الشاقة بتهمة العصيان والتحريض على تحرير القيان. وفي الأشهر السبعة الأولى من سجنه، أبقي في زنزانة طلي زجاجها بالدهان السود لكي لا يدخل منها النور.
ذات صباح نقل فجأة إلى ساحة سيمينوف بلباس أبيض، هو الذي يعطى للذين سوف ينفذ بهم حكم الإعدام مع خمسة آخرين. وبعد ساعة من مثل هذا الانتظار للموت، أعلن أن القيصر قرر العفو عن المحكومين. في الطريق إلى أومسك، مروا به في توبلسوك، حيث رأى رجلاً موثوقًا بالسلاسل إلى جدار السجن... منذ ثماني سنوات.
في أومسك، بدأ يصاب بنوبات الصرع. لم يسمح له بكتاب واحد طوال أربع سنين. ووصفه أحد الحراس فيما بعد بأنه «صامت شارد شاحب ناحل لونه بلون التراب، وعلى جلده بقع حمراء. بعد عشر سنين أطلق مسرحه. توفيت ابنته الأولى صوفيا، بعد ولادتها بثلاثة أشهر بالتهاب الرئتين، وقال إنه لا يمكن أن يحب أحدًا كما أحبها. وبدأ بتأليف الكتاب تلو الآخر من دون ترحيب من النقاد الذين رأوا أن مؤلفاته قاتمة وسوداوية.
وفي روايته «الأبله» يقول: «ثمة روح إنسان آخر في ظلمة حالكة. ويا للفوضى القائمة هناك». ترى، هل من هذه الجملة استوحى جان بول سارتر قوله الشهير «جهنم هي الآخرون»؟
طوال السنوات التي أمضاها في معسكر الاعتقال لم يمضِ مساء واحدًا من دون زحام المعتقلين. ولم يقرأ كتابًا. ولم يكتب كلمة إلا عندما كان يدخل المستشفى فيهرِّب إليه الطبيب ورقة يكتب عليها شيئًا. عندما كان في التاسعة اشترى والده منزلاً قرويًا صغيرًا. وذات يوم التقى فلاحًا يدعى «مرعي»، سلم عليه ومسح جبينه بحنان. وعندما كان في السجن، كتب إن ذلك المشهد كان يعود إليه ويبعث فيه الرغبة في البقاء.
ذلك كان دوستويفسكي، أعظم روائيي روسيا، وربما أعظم روائيي العالم. أهانت روسيا القيصرية مفكّريها وأدباءها، كما أهانتهم روسيا السوفياتية. كانت التهمة التي توجه إليهم هي الجنون، وقد كررها السوفيات. ولم يخترع الشيوعيون منفى ومعتقل الجليد في سيبيريا، بل القياصرة. وفي النهاية، الذين صنعوا مجد روسيا ومكانتها وأحيوا روحها الوطنية، كانوا أدباءها. والذين خاضوا حرب الحرية في العصر السوفياتي كانوا أدباءه. لولا بوريس باسترناك وألكسندر سولجنستين وأخماتوفا، لما كان هناك ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.
التعليقات