محمد عاكف جمال

بدأت سياسة روسيا في منطقة الشرق الأوسط تتسم بطابع «اقتحامي» غير مألوف، لم يتأت من فراغ بل جاء مكملاً لما حققته السياسة الإيرانية من «اقتحامات» في عدد من الدول العربية.

«الاقتحام» الروسي المفاجئ في سوريا لم يأت دون حسابات لردود فعل إدارة الرئيس الأميركي أوباما في سنتها الأخيرة في البيت الأبيض، حيث يتحول الرئيس فيها وفق المصطلح الأميركي إلى «بطة عرجاء».

فقد تحول دعم روسيا للنظام السوري من الاكتفاء بتزويده بالسلاح وحمايته سياسياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية إلى المشاركة الفعلية بقواتها الجوية والصاروخية وأسطولها في بحر قزوين وفي البحر الأسود في الحرب إلى جانبه.

هذا التدخل الكثيف وضع الأزمة السورية والفرقاء ذوي العلاقة بها محلياً وإقليمياً أمام استحقاقات جديدة، فهو لم يسفر عن تطور خطير في هذه الأزمة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تعزيز الوجود الروسي في الشرق الأوسط ..

وفي البحر الأبيض المتوسط وهو هدف استراتيجي كبير وجدت روسيا فرصتها الذهبية في الحرب السورية لتحقيقه. من جانب آخر، أسفر هذا التدخل الكثيف عن ضياع حظوظ تركيا في إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية كخيمة للنازحين السوريين وهو ما كررت الدعوة إليه.

كما تسبب في إحداث شروخ في علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين في المنطقة وأبرزهم تركيا والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي الأخرى، بسبب مواقفها التي تتسم بالضعف والتردد، وأحدث إضافة إلى هذا وذاك، التصدعات في صفوف الناتو، لأن السياسات الروسية «الاقتحامية» لم تواجه من قبل الولايات المتحدة بمستوى يوازي مستوى تحدي هذه السياسات لهيبة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.

تركيا أصبحت المتضررة الأولى من الأزمة السورية مع التصعيد الروسي، ربما على الأمد القصير فحسب، بعد أن كانت تراهن على عكس ذلك، فهذه الحرب تتجه نحو مآلات لم تعد في صالحها بعد أن تردت علاقاتها مع روسيا إلى أبعد حد وأصبحت في مواجهة مباشرة معها وأصبحت حدودها الجنوبية مصدر قلق على أمنها القومي وأصبح الحديث عن عزمها على إرسال قوات برية أقل تردداً في تصريحات مسؤوليها.

وهي ترى نفسها مغلولة اليدين لا تستطيع التحرك في سوريا دون غطاء أميركي لن تستطيع الحصول عليه من إدارة الرئيس الأميركي أوباما، فهي غير قادرة على تصعيد خلافاتها مع موسكو وتحمل تبعات ذلك دون الحصول على ضوء أخضر أميركي.

الحرب الأهلية الدائرة في سوريا منذ خمس سنوات، جلبت معها مخاوف طالما اعتبرتها تركيا ذات مساس بأمنها القومي بعد أن حقق حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني وذراعه العسكرية «وحدات حماية الشعب الكردي» انتصارات عسكرية على داعش، تمخضت عنها سيطرتهم على رقعة جغرافية متاخمة لحدودها وعملوا على توسيعها باتجاه مدينة إعزاز التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية.

تركيا التي لديها حساسية مفرطة من القضية الكردية منذ تأسس حزب العمال الكردستاني فيها عام 1974 وتبنيه خيار الصراع المسلح عام 1984 شهدت مواجهات دامية مع هذا الحزب تجددت أخيراً، تعتبر حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا بزعامة صالح مسلم نسخة منه.

والحقيقة أن أكثر الفصائل المشتركة في القتال الدائر في سوريا استفادة هم الكرد، فهم يتمتعون برعاية أميركية ويقاتلون بأسلحتها، حيث ترفض الولايات المتحدة اعتبار الحزب الأكثر شعبية في صفوفهم، الاتحاد الديموقراطي الكردستاني منظمة إرهابية..

كما تصر تركيا على ذلك، وهم يتمتعون كذلك بدعم روسي وصل حد الإصرار على إشراكهم بمحادثات جنيف 3، لرسم مستقبل سوريا ويتمتعون .

كذلك برضا نظام الأسد عن أدائهم، لأنهم لم يرفعوا السلاح ضده بل رفعوه ضد أعدائه. هذه الميزات تقلق تركيا إلى حد بعيد، فحين تضع الحرب الدائرة في سوريا أوزارها ستكون هناك استحقاقات لا مفر من أخذها بعين الاعتبار، بعد أن أصبحت الخارطة الديموغرافية على الأرض بوضع جديد.

ويأتي في سياق ذلك تصريح الرئيس الأميركي رداً على ما سبق وكرره رئيس إقليم كردستان العراق حول الدولة الكردية المستقلة..

مؤكداً أن الولايات المتحدة تتعامل مع عراق موحد وفيدرالي وديمقراطي، وهي رسالة ليس لرئاسة الإقليم وحده وإنما للرئاسة التركية، مفادها أن التزام الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا لا يرقى إلى مستوى تأييد الحزب في إقامة كيان مستقل يهدد أمن الدولة التركية.

الخلافات في تصاعد بين الولايات المتحدة وتركيا، فقد هدد الرئيس التركي بإغلاق قاعدة إنجرلك التركية في وجه أسطول الطائرات الأميركية التي تشن غاراتها على مواقع تنظيم داعش في سوريا، مخيراً الرئيس الأميركي بين تركيا أو حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي.

تركيا تعاني أكثر من غيرها من الضغوط المترتبة على أوضاع النازحين باتجاهها، خصوصاً مع تكثيف روسيا لغاراتها الجوية على منطقة حلب من جهة وضغوط الدول الأوروبية لتشديد القيود لمنع هؤلاء من العبور إلى قارتهم من جهة أخرى..

وهي ترى أن الغرب لم يعد يتجاوب معها حول اقتراحها بإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا على الحدود الدولية، منطقة كانت ستوفر الكثير على أوروبا وعلى تركيا وعلى النازحين أنفسهم. تركيا تراجع الآن موقفها من الحرب في سوريا، وتدرك مدى الخطأ الذي اقترفته بعدم التدخل العسكري المباشر وفرض المنطقة الآمنة في وقت مبكر بدل التعويل على الموقف الأميركي المتخاذل.