&عصام عبدالله&


تشير التطورات الأخيرة في سوريا، وتحديدا الدخول الروسي العسكري، إلى أن ما يجري هو إعادة ترتيب للتوازنات العالمية في الشرق الأوسط. وأنه لا يوجد صراع في المنطقة بين القوى الكبرى، وفق ما كشفته التصريحات الأميركية الأخيرة عن وجود تنسيق مع موسكو، لاستئصال التيارات الإرهابية. وهو ما ألمح إليه مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة في حديث سابق، من أن سبتمبر سيشهد بداية التوافق حول صيغة التعاون الدولي الجديد، وطي صفحة المرحلة الانتقالية لما بعد الحرب الباردة.
ولقيت فكرة الوجود الروسي في سوريا ترحيبا من بعض القوى الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط، ولو على قاعدة أخف الضررين، لأن موسكو التي تشعر بالقلق من طموحات إيران الإقليمية، سيكون في مقدمة أولوياتها إلغاء دورها ودور حليفها حزب الله في سوريا.
التطورات الأخيرة في الأزمة السورية ودخول روسيا بثقلها العسكري كشفت عن أن صراع القوى الكبري في المنطقة لم يكن خلافا دوليا مستحكما، كما ظهر في الميديا، بقدر ما هو "إعادة ترتيب" لتوازنات دولية وإقليمية قادمة.
المشاورات العسكرية بين موسكو وواشنطن، في العمق، هي تنسيق استراتيجي للوجود الروسي في سورية، قبل اللقاء المرتقب والحاسم بين الرئيسين بوتين وأوباما، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك نهاية سبتمبر الجاري 2015.
إشارات إيجابية


ويبدو أن الإشارات الإيجابية الصادرة عن واشنطن بشأن التنسيق مع موسكو في سورية تحمل كثيرا من المفاتيح المهمة لفك شفرة المستقبل القريب:
فالمحادثات العسكرية بين روسيا والولايات المتحدة، حسب بيان البيت الأبيض "خطوة مهمة لتحديد بعض الخيارات المتاحة لنا مستقبلا".


كما أن الهدف المعلن هو "تدمير داعش والتوصل إلي تسوية سياسية في سورية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظل بقاء الأسد في السلطة لفترة طويلة"، وتعبير "لفترة طويلة" هو تطور جديد في لغة الخطاب السياسي الأميركي منذ عام 2013، لا سيما الحديث عن "حتمية رحيل الأسد، والخط الأحمر"، ما يعني أن قبول الأسد في الحكم لفترة انتقالية، قد تطول أو تقصر أو تنتهي بما انتهي إليه علي عبدالله صالح في اليمن.
كذلك فإن قضية البحث عن أرضية مشتركة مع الروس، وهنا نستحضر حديث مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة في فبراير 2015 – والذي نشرناه في صحيفة "الوطن" قبل أيام – من أن سبتمبر سيشهد بداية التوافق حول صيغة التعاون الدولي الجديد، وطي صفحة المرحلة الانتقالية لما بعد الحرب الباردة 1989 – 2015.


قبول إقليمي


اللافت للنظر أن الوجود الروسي في سورية لقي قبولا من معظم حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، وإن كان عنوانه الأبرز "محاربة داعش وأخواتها"، لكنه يتعلق أساسا بالنفوذ الإيراني القوي في سورية ودعمه غير المحدود لنظام بشار الأسد، فالمطالبة برحيل بشار من جانب القوى الإقليمية تعني إضعاف دور إيران وحزب الله، وهو مطلب استراتيجي إقليمي من جهة، كما أنه تثمين لدور تركيا في المنطقة، لا سيما توسيع نفوذها الاستراتيجي من جهة أخرى.
الزيارات المكوكية إلي روسيا "السابقة والمقبلة" من حلفاء الولايات المتحدة تشير إلى ترتيب ما قد تم التوافق عليه في مجموعة من الملفات في الشرق الأوسط، في مقدمتها سورية، تشدد على محاصرة الوجود الإيراني في سورية، مثل زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، ونتانياهو، وأمير قطر.


القلق من إيران


وفي تقرير صادر عن مؤسسة كارينجي للسلام العالمي، بعنوان "إيران.. رؤية من موسكو" للباحثين ديمتري ترنين وإلكسي مالاشينكو، خلص إلى أن بروز إيران كقوة صاعدة، سيزيد من توتر العلاقات مع روسيا، التي يفترض كثير من المراقبين من خارج البلدين، أن العلاقات الاقتصادية والعسكرية بينهما "وثيقة"، بينما هذه العلاقات معقدة للغاية، فموسكو تشعر بالقلق المتزايد من طموحات إيران في المنطقة، التي تتجاوز بحر قزوين والقوقاز ووسط آسيا، وروسيا في النهاية لا تريد منافسا إقليميا لها في المنطقة".
سورية ورقة مهمة لروسيا في التأسيس لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب في الألفية الثالثة، لذا فإن رحيل الأسد قبل إعادة ترتيب التوازنات الدولية والإقليمية أصبح مستبعدا، ذلك أن إعادة ترتيب الأوراق حول سورية يلغي "أتوماتيكيا" العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب أوكرانيا، ويمنح بوتين الاعتراف الغربي بضمه لشبه جزيرة القرم شرق أوكرانيا، وبذلك تنتهي واحدة من المشكلات العالقة بين روسيا وأميركا منذ نهاية الحرب الباردة، ومن هنا فإن الوجود الروسي في سورية ليس دفاعا عن الدولة السورية – التي لم تعد موجودة أصلا – وليس دعما لنظام بشار الأسد - المنتهي فعليا - وإنما للدفاع عن "الدولة الروسية" أولا وأخيرا.


محاصرة التطرف


من جهة أخرى، فإن الوجود الروسي في سورية يشكل أهمية قصوى لمحاصرة التطرف الإسلامي ومنع انتشاره وتمدده داخل أراضي روسيا، وحتى شمال القوقاز، حيث تدفع حالة عدم الاستقرار هناك وانعدام الثقة في السلطات الفيدرالية، إلى الاعتقاد بأن الحل الوحيد للمشكلات المتفاقمة يكمن في تطبيق الشريعة الإسلامية. حيث يوجد تيارن رئيسان: أحدهما مع دمج الشريعة مع القوانين الفيدرالية وإنشاء فضاء إسلامي داخل روسيا الاتحادية، وتيار آخر متشدد، هدفه الانفصال عن روسيا وإنشاء دولة إسلامية مستقلة. وحسب الخبير الروسي "ألكسندر ديمتشينكو" فإن أهم دور ستقوم به روسيا للغرب "بالوكالة" في سورية هو محاربة داعش وتنظيم القاعدة وسائر التنظيمات التي تؤمن بالعنف وتمتد إلى الحركات الانفصالية في آسيا الوسطي والقوقاز.


روسيا – شئنا أم أبينا – هي "قناة غربية" بامتياز، تتوسط ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي الجسر الغربي الممتد شرقا باتجاه الصين وكوريا الشمالية، مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا.