&عمر عبدالعزيز

كل مراجعة رائية مستبصرة لعلم التاريخ والفكر تعيدنا إلى المعنى العبقري للوسطية، ذلك إن النظرة التي تقرأ الظواهر في ثنائياتها المتكاملة هي النظرة الوسطية العاقلة، وتدل شواهد الكون والطبيعة والمجتمع إلى القانون الشامل الذي يحكم معنى الوسطية، فكل الظواهر تستقيم على تناوب وتبادل وتكامل جبري بين مستويين، فالكهرباء التي نتنعم بها منذ مصباح أديسون السحري تقوم على قطبي الموجب والسالب، والذرة بوصفها الوحدة العضوية المكونة لجزيء المادة لا تستقيم خارج شحنتي الموجب والسالب للبروتون والإلكترون، والجسم البشري لا يتحول نماء وتصاعداً إلا بتناوب الخلايا الميتة والخلايا الحية، وحالما تختل معادلة التوازن العددي بين الخلايا الحية والميتة يبدأ الجسم بسفر جديد صوب الموت الفيزيائي الشامل، وقد يتم هذا السفر نحو الموت البيولوجي بتسارع كبير، كما في حالات الأمراض القاتلة، وقد يتم على مراحل متباعدة فيشيخ الإنسان ويبلغ من الكبر عتيا.

قوانين الطبيعة هي ذاتها في الفعل المجتمعي العام، فالتطرف أياً كان لونه إنما هو ضرب من التأبي على قوانين الوجود التي أودعها الحق في الكون، والمتطرفون بمختلف أشكالهم ومسمياتهم إنما يصدرون عن المنطق العدمي ذاته غير القابل بالحقائق الموضوعية.

في تاريخنا الخاص كثر الجدل حول الوسطية، وكان علماء الكلام والفكر الأكثر رشداً وحكمة يتعاملون مع مقولات الرأي والكلام على قاعدة الوسطية، فالأشاعرة تباعدوا جذرياً عن مغبة المحاولات العقيمة في تفسير الغيوب وتأولها، واعتبروا تكشفات الغيوب منة إلهية يمنحها لمن يشاء من عباده، وكانوا بهذا المعنى ظاهريين لا يرفضون الغيب، بل يسلمون بأن الغيب هو أصل الحقائق، وفي ذات الوقت يسلمون بأن هذا الغيب لا يتيسر إلا لمن حباه الله منة ومنحة خاصة، وبالمقابل كان المعتزلة المتأولون يقولون بالمنزلة بين المنزلتين، وتلك وسطية وجودية فكرية تجمع بين ضرورة العقل والتأويل، والفسحة الكبيرة في إطلاق الأحكام، وكان الفيلسوف المفكر جابر بن حيان يعتد بنظرية الميزان الإلهي.. قال تعالى: «الرحمن علم القرآن * خلق الإنسان علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * السماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان».

الميزان بحسب جابر ابن حيان يشمل كل ظواهر الكون والوجود، وهو المعادل الشامل للحكمة والرشد، فما من ظاهر إلا وهو قائم في أساس الثنائية ذات الوجهين، ومن لم يدرك هذه الحقيقة المطلقة سيقع حتماً في مربع المجافاة غير الواعية لنواميس الأرض والسماء، ومن أراد إدراك الحقيقة، فعليه ألا يبحث عنها في هذا الطرف أو ذاك، بل في برزخ الانفصال والاتصال بين الطرفين.. إنها الحقيقة التي تكمن في البعد الثالث غير المرئي، ولا يصل إليها من لم يكن وسطياً عاقلاً.

ما يجري من تطرف على درب الخطاب الإسلامي الملفق، لا يختلف من حيث جوهره على ما يجري في الساحات المتطرفة الموازية، وإذا عقدنا مقارنة عابرة بين ميتافيزيقيينا المخطوفين عن ذواتهم الطبيعية، وبرهانييهم المكبلين بالعقل الصرف، والجبر الرياضي الهندسي، سنجد أن الطرفين يقعان في ذات التطرف.. الميتافيزيقيون المسلمون يقعون في محنة الادعاء بالجواب عن كل أسئلة الوجود والغيب، والبرهانيون يقعون في محنة الاعتداد بالمنطق الرياضي الصرف في ما يسمونه الأبستمولوجيا المقطرة.

ومن هنا ينشأ وجه التقابل غير الحميد بين استقطابين متطرفين.. يبدوان في الظاهر متخاصمين حتى مخ العظم.. لكنهما يخدمان أجندة التطرف من حيث يعلمان أو لا يعلمان.&