حسن سلمان

&&استبعد خبراء ومحللون تونسيون أن تتسبب «وثائق بنما» بتغيير المشهد السياسي أو الاقتصادي في البلاد، كما قللوا من أهمية اللجنة البرلمانية التي تم تشكيلها مؤخراً للتحقيق في هذه القضية، مؤكدين أن تونس التي يشكل الاقتصاد الموازي أكثر من نصف دخلها المحلي، لا تختلف كثيراً عن بلدان مثل بنما أو كولومبيا باعتبارها «جنة» أخرى للفساد والتهرب الضريبي.

وكان عدد من المراقبين حذروا من حدوث «زلزال» في المشهد السياسي التونسي إثر البدء بالكشف عن الأشخاص «المتورطين» في فضائح تهريب الأموال التي كشفت عنها «وثائق بنما» مؤخراً، ونشر بعضها موقع «انكيفادا» المحلي، فيما تحدث آخرون عن وجود «تصفية لحسابات سياسية» مرتبطة بهذا الأمر.

لكن الخبير الدستوري والمحلل السياسي جوهر بن مبارك (رئيس شبكة دستورنا) يرى أن الأمر أكبر من مجرد تصفية حسابات سياسية، مشيراً إلى أن «استعمال مبرر التوظيف السياسي لا يجب أن يحجب حقيقة وجود خروقات ومحاولات جادة لتهريب وتبييض الأموال من قبل سياسيين ورجال أعمال تونسيين، لذلك لا بد من متابعة هذه القضية وأخذها على محمل الجد والابتعاد عن منطق المؤامرات السياسية لأن كل الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها فتحت تحقيقاً في هذه الوثائق التي أدت لحدوث استقالات وتأثيرات مباشرة على الحياة السياسية فيها، لكن الدول غير الديمقراطية كروسيا والدول العربية ومنها تونس اعتبرت الأمر مجرد مؤامرة».

ويضيف في تصريح خاص لـ«القدس العربي»: «أعتقد أن الحديث عن احتمال حدوث زلزال في المشهد السياسي التونسي جراء نشر وثائق بنما يحمل الكثير من المبالغة، ولا أقصد بذلك التقليل من أهمية هذه التسريبات، ولكن الواقع السياسي والقانوني في تونس لا يرتقي إلى مستوى إعطاء مثل هذه الفضائح الأهمية التي تؤدي إلى زلزلة المشهد السياسي، بمعنى أن الدولة التونسية تعودت على الفساد وعملية تبييض الأموال وتهريبها المستشرية في البلاد، ولا أعتقد أن فضائح إضافية على الفضائح المتتالية التي يعرفها التونسيون هي التي ستغير المشهد السياسي إلا في صورة خروج أسماء ووثائق أخرى ربما تكون من الحجم الثقيل قد تؤدي إلى بعض التغييرات أو التحويرات في المشهد السياسي، لكن التونسيين عموماً تعودوا على قضايا الفساد ولا يعلقون تبعات كبيرة على مثل هذه الأمور».

ويوضح أكثر بقوله «قضايا تهريب وتببيض الأموال لا تعتبر جرائم في تونس فهي مجرد مخالفات تستدعي إبرام الصلح مع الإدارة، في حين يعاقب القانون فقط على عملية التهريب والتبييض المالي المرتبطة بتمويل الإرهاب، أما القضايا المالية الأخرى فتؤول إلى الصلح، كما أسلفت».

وحول ارتباط الأسماء التي الكشف عنها حتى الآن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في حزب «نداء تونس»، يقول بن مبارك «لا أريد الدخول في المضاربات، علينا انتظار بقية الوثائق حتى نرى مدى ارتباطها بحزب معين لأن المضاربة في هذا الموضوع ربما تقودنا إلى ارتكاب أخطاء ما، ولكن من باب الحديث العام أعتقد أن حزب نداء تونس حين تشكل جلب لنفسه عدداً كبيراً من وجوه النظام السابق المعروفة بالفساد المالي سواء كانوا من رجال الأعمال أو السياسيين، والآن ربما لو كشفت بعض المعطيات حول تورط أشخاص داخله بفضائح مالية ستؤدي إلى أزمة إضافية يمكن أن يعيشها النداء أو الوجوه المحسوبة عليه».

كما يقلل من أهمية تشكيل لجنة برلمانية لمناقشة «وثائق بنما» وتبعاتها، مشيراً إلى أن هذه اللجنة «شُكّلت بطريقة تهدف إلى تعويم هذه القضية، أولاً لأنها تضم 22 عضواً وهذا العدد الكبير من شأنه أن يعوم التحقيقات وعمل اللجنة، ومن ثم شُكلت على أساس التمثيلية النسبية في البرلمان بمعنى أن الكتل الحاكمة ستستأثر بنصيب الأسد من التمثيل داخل هذه اللجنة، وهي بطبيعة الحال لديها مصالح في إغلاق هذا الملف أو تعويمه، خاصة أن داخل هذه اللجنة يوجد برلمانيون ينتمون إلى كتل قياداتها مُورطة في القضية، مثلاً كتلة «الحرة» ممثلة بحوالي أربعة أعضاء داخل اللجنة في حين أن زعيم المشروع الذي تنتمي إليه (محسن مرزوق) هو مورط في القضية وبالتالي وهناك تضارب في المصالح وهذا الأمر ينطبق أيضاً على النداء والنهضة في حال الكشف عن أسماء متورطة تنتمي لهذين الحزبين».

ويوافق الخبير الاقتصادي مُعز الجودي (رئيس الجمعية التونسية للحوكمة) على ما ذهب إليه بن مبارك في التقليل من أهمية اللجنة البرلمانية المكلفة بالتحقيق في «وثائق بنما»، مشيراً إلى وجود «عشرات اللجان التي تم تشكيلها في تونس وأشهرها لجنة عبدالفتاح عمر (لجنة تقصي الحقائق ومقاومة الفساد) والتي قامت بعمل متميز ولم يكن هناك أي تبعات أو نتائج لهذا العمل ولم يتم إيقاف أي شخص وقع الكشف عنه من خلال تقرير هذه اللجنة، كما أن هناك نقطة استفهام حول موت عبدالفتاح عمر».

ويضيف في تصريح خاص لـ«القدس العربي»: «المجتمع المدني أصدر العديد من التقارير (التي تتعلق بالفساد)، ونحن في الجمعية التونسية للحوكمة قمنا بدراسة ميدانية في 2014 وأصدرنا تقريراً بعنوان «حوكمة الجمعيات في تونس» وأثبتنا فيه وجود 18 ألف جمعية قائمة الذات في تونس، من بينها 20 جمعية فقط أمدونا بتصاريحهم وقوائمهم المالية، وأثبتنا أن عملية تببيض الأمول تقع عبر النسيج الجمعياتي في تونس وراسلنا الحكومة والبرلمان وجميع السلطات فأجابونا أن تقريركم جيد لكن لنا يكون هناك أية تبعات».

ويتابع « قبل أن يتم تشكيل لجنة للكشف عما حدث في بنما والجنّات الضريبية، لا بد من القيام بعمل على المستوى الوطني، فهناك أحزاب سياسية فاسدة ولا تدلي بالقوائم المالية الخاصة بها، وهناك أحزاب فاعلة في المشهد السياسي مربوطة بمنظومة الفساد وأخرى مرتبطة بالمهربين والمتهربين من الضرائب، وأحزاب تحمي هذه المنظومة لأن هناك نوعاً من التمويل يتم عبرها».

وكانت لجنة المصادرة المكلفة بمصادرة أملاك الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلته تلقت مراسلة من قاضية تعمل في التحقيقات المتعلقة بالأموال المصادرة بكولومبيا تدعى مارسيا رودريغاز، كشفت فيها عن وجود العديد من الحسابات السرية إلى جانب شركات وهمية في البلاد تابعة لشخصيات تونسية.

ويعلّق الجودي عل هذا الأمر بقوله «لا نحتاج اليوم إلى بنما أو كولومبيا للتأكيد على أن هناك فساداً أو تهريباً في البلاد، فتونس اليوم هي جنة ضريبية نصف اقتصادها يأتي من التهريب، وثمة دراسة للبنك الدولي تؤكد أن 54 في المئة من الناتج المحلي الخام في تونس هو اقتصاد تحتي أي غير مراقب من قبل الدولة وليس فيها ضرائب، أي أن هناك أشخاصاً لا يحترمون القانون ويبيضون الأموال ولا يدفعون ضرائب ويساهمون في نصف اقتصاد البلاد، وهذا مُعترف به من قبل الحكومة الحالية التي لم تعمل على الحد من استفحال الاقتصاد التحتي في تونس والحد من استفحال الفساد والرشوة التي تشكل اثنين في المئة من الناتج المحلي الخام».

ويضيف «رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد شوقي الطبيب قال إن 90 في المئة من الفساد موجود في الإدارة التونسية، بمعنى هل نأمل بمقاومة الفساد فبلد 90 في المئة من مسؤوليه فاسدون؟».

ويرى الجودي أن الفساد في تونس بات أخطر بعد الثورة فـ«قبل الثورة كان هناك فساد لكنه كان لديه نوع من «الديمقراطية» لأنه في عهد بن علي كان الفساد محصوراً في عائلات متنفذة عدة ، أما الآن فالفساد موجود من شمال تونس حتى جنوبها، وهذه الجنة الضريبية صار فيها أشخاص عديدون من بينهم من ينشطون في الاقتصاد الموازي وبارونات التهريب الذين يمولون الإرهاب ويبيضون أموالهم في الجمعيات وغيرها».

ويقترح إصلاح المنظومة الجبائية في تونس والتي يرى أنها «غير عادلة وغير واضحة وتنقصها الشفافية والعدالة الجبائية، وقد اقترحنا هذا الأمر منذ مدة، وللأمانة الآن هناك مشروع لإصلاح هذه المنظومة تناقشه الحكومة، ونحن نطالب بتسريع الإصلاح الجبائي، وفي الوقت نفسه احترام وتطبيق القانون، وخاصة أن الإشكال في تونس هو وجود نوع من الإفلات من العقاب، فالأشخاص الذين سرقوا وهرّبوا أموالهم وتم الكشف عنهم، حتى في فضيحة «سويس ليكس» في السنة الماضية، لم يعاقبوا، في حين تتم معاقبة الشخص العادي والبسيط لأي أمر غير قانوني».

&