&محمد خليفة

عبقرية الأمة الحضارية تتجلى في أبدع صورها حينما تواكب تغيرات العصر وتتمثلها، وذلك لأن الأمة ذات المبادئ السامية هي أكثر من كيان سياسي واقتصادي واجتماعي، ولا جدال أن احترام الذات هو المنظم الأساسي لسلوك الأمة، والموحد لاتجاهاتها والمحقق للتكامل. وإعلان دولة الإمارات عن تخصيص وزارة للتسامح هو من أجل ترسيخ التسامح كقيمة أساسية في مجتمع الإمارات، ومشروع أخلاقي شامل وكامل يحدد حقوق الفرد وواجباته، ويحدد كذلك علاقته بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة، ويوفر الإيديولوجيا المستنيرة للشؤون الاجتماعية والسياسية والدينية والقانونية، ولا يترك للضرورات الفردية العقائدية والمذهبية أن تطغى على الضرورات الإنسانية.

وقد شكلت دولة الإمارات منذ قيامها واحة للتعايش والتسامح الديني بين سكانها. وقد أكد سمو الشيخ هزاع بن زايد آل نهيان نائب رئيس المجلس التنفيذي بأبوظبي بقوله:«يحتاج عالمنا اليوم إلى التسامح حاجته إلى الماء والهواء»، معلقاً على اللقاء التاريخي الذي جمع بين باب الفاتيكان فرانسيس وإمام الأزهر الأكبر الدكتور أحمد الطيب يوم 23 / 5 /2016 بالمقر البابوي. فدولة الإمارات ذات رسالة وتراث وتاريخ وتمتلك كافة الإمكانات في كافة الميادين والحقول، وترتكز كبقية الدول المتحضرة على إيديولوجيات ذات وجه إنساني تكرس التعاون الحر بين أمم حرة، وتوحد كافة الشعوب والأمم في إنسانية من منطلقات مفتوحة بين دول الأرض، وبالحوافز الفردية وبقوانين السوق ومركزية الثقافة العالمية، وبإلغاء الفوارق العنصرية والسياسية بين الشعوب والأمم، والالتزام بالحفاظ على حقوق الإنسان، وترسيخ القِيم والمثل العليا، والاعتراف بكافة الأطر الإيديولوجية التي عرفتها الحضارة الغربية التي تقر بأولوية المصالح الإنسانية، والتي تجعل الأبعاد المتعالية للحياة المساواة العادلة بين كافة شعوب الأرض دون تمييز، وردم الهوة العقائدية والسلوكيات الإقصائية حول بعض المسائل الدينية، من أجل أن يعم التسامح وتنطلق الروح العامة إلى عالم التأمل، ومدائن الفرح، وفلسفة الحكمة وفسحة مجالاتها ومداراتها، واتساع علاقة الرؤية من كل جوانبها وأعماقها، بحاسة الوجدان الإنساني، والالتزام بجوهر المثل العليا بعيداً عن الملابسات التي تحاول تشويهها بعنف الغريزة وسوء الطبع؛ فالحاسة الإنسانية تتميز بتفسير معاني نفسها بنفسها بما يصدر من الروح.

وهكذا كان انبثاق الفكر الفلسفي في أوروبا هو: التأسيس المبكر لحضارة نامية ومزدهرة، وقابلة للمزيد من النمو والازدهار. وكانت الفلسفة منذ البدء دعوة صريحة وملحة لتحرير الإنسان من الأحكام المسبقة، وتأكيداً بأن على كل إنسان أن يراجع ما تشبع به تلقائياً في الطفولة؛ فإنسانية الإنسان لا تتحقق إلا بمقدار ما يعرف، وبمقدار ما يلتزم بهذه المعرفة في آرائه ومواقفه وسلوكه، فيكون عادلاً وموضوعياً بأقصى ما تسمح به الطبيعة البشرية. وقد حبا الله أرض الإمارات بالكثير من الخير والنعمة، ما جعلها مقصداً للبشر من مختلف بقاع الدنيا، حيث يعيش الجميع في أمن وسلام، وقد وفرت الحكومة الرشيدة فرص العمل من دون تمييز أو إقصاء؛ ما عزز من مناعة وقوة المجتمع؛ لإدراك القيادة أن الأخوة الإنسانية تعم البشر جميعاً. ومن أجل الحفاظ على إنسانية الإنسان وحقوقه وكرامته كان، ولا يزال، حجر الزاوية الذي قامت عليه حضارة الدول المتقدمة، وليس بغريب أن يحظى الإنسان بصرف النظر عن معتقداته بالمكانة والحظوة، طالما أن الإنسان مصان الكرامة ومحفوظ الحقوق.

وزارة التسامح بما يعني توجيه أفعالها نحو القِيم العليا والقضايا العامة، لمجتمع يراد له أن ينتقل من تجمعات العصبية الضيقة إلى ذلك المجتمع المدني العقلاني، الذي طالما سعت الدولة من أجل تنمية وتعميق الوعي بإشكاليات كل ما هو أخلاقي وثقافي، والذي يتسع ويتطلب، بلا شك، العديد من المقاربات، والعمل على اكتشاف مكوناته، وتحديد منظوماته، وتحليل إشكالياته من منظور يختلف ويتكامل مع المنظورات الأخرى على مستوى الثقافات الشعبية السائدة، والتي تعتبر الجذر العميق في علاقات الذات بالآخر والمجتمع والعالم. كما إن إنشاء وزارة جديدة أيضاً للسعادة مهمتها الأساسية توفير سبل السعادة لكل مواطن إماراتي، والعمل على تحسين مزاج المجتمع.

ودولة الإمارات هي أولى الدول في هذه القارة تنشئ وزارة السعادة بعد تجربة أمريكا اللاتينية؛ ففي فنزويلا حيث تم تعيين وزير مهمته تحقيق السعادة الاجتماعية، والثانية في الإكوادور حيث يتولى وزير تحسين جودة الحياة بما يشكل تطوراً مهماً في مسؤوليات الدولة تجاه مواطنيها، وفتح مجال الإبداع والخلق والتجديد والابتكار؛ لتحقيق الأمة حداثتها الذاتية المنطلقة من بنيان ثقافتها الأصلية وبناء المستقبل بالاستفادة من الأصول الحية من الماضي، وبذل الجهد ومزيد من البحث والتعلم؛ بل وبذل مزيد من الخيال والتخيل المستقبلي لتحديد مواقع التسامح الكلية، كون الإنسان كجمع وليس كفرد يمكن أن يتحقق إرادياً فيه مفهوم الإيمان، والتسامح، والعدل والخير المطلق، وإلى التفاعل مع الإنسان؛ أيّا كان جنسه أو نوعه أو معتقداته، بعيداَ عن الصدمات العدائية المزيفة للوعي، وتعميقاً لما هو إنساني في الإنسان، حينما تنساق الشعوب وراء أفكار التمييز والتطرف في كل مرة تطرح فيه الاختلاف والإشكاليات، أو حتى حينما ترتبك التحديات النظرية، أو تعلو نبرة الأنا في الذات ومشروعها من دون إدراك.