&صلاح سالم&

كان لاهوت التحرير، فى سياقه المسيحي، قد ألهم حركات التحرر الوطنى فى معظم أرجاء أمريكا اللاتينية، ستينيات القرن الماضي، ضد الكنيسة والإقطاع والهيمنة الأمريكية والنظم العسكرية معا، وأسهم، من ثم، فى إخراجها من مأزقها السياسي، وذلك باكتشاف بؤر للإيجابية تتجاوز حال الاغتراب المسيحى الموروث عن الملكوت الدنيوي. مثل ذلك اللاهوت هو ما يحتاجه عالمنا العربى اليوم، لإعادة تأسيس العلاقة بين الإيمان الإسلامى وبين العقلانية والحرية الفردية، خلاصا من سلطة النص التراثي، وخروجا من المأزق الحضارى الشامل الذى دفعنا إليه لاهوت الخرافة والجبر.&

نحتاج إلى لاهوت عقلاني، ينفتح على قضايا العصر ولا يقع فريسة لعبادة النص.&

وإلى لاهوت تاريخى يربط بين العقيدة والتاريخ، فالوحى خطاب إلهى للإنسان، ولكن فيما مصدر الخطاب مطلق ومتسام وأبدي، فإن المتلقى نسبى وقاصر لا يكف عن التغير. ومن ثم، وحتى يبقى الخطاب الإلهى موصولا بنا مفهوما منا، مؤثرا فينا، فلابد أن يكون قادرا على استيعاب تحولاتنا الدائبة، والإحاطة بعوالمنا المختلفة، وهو لا يكون كذلك، ولن يكون، إلا بالتأويل المبدع للنص الديني، فلا يفهم مبناه إلا فى السياق الذى أُنزل فيه أو جمع فيه أو كتب فيه، وفى ضوء البيئة التى وضع لها، والمجتمع الذى استقبله، ومستوى النضج العقلى السائد فيه، والتطور المعرفى للإنسان الذى خاطبه. كما لا يدرك معناه إلا فى سياق الفهم الكلى لمقاصد الشرع الحكيم وغايات الله فى الوجود، اللهم سوى الآيات المحكمة التى تتعلق فقط بصلب العقيدة وأركان الشريعة، وهنا تنتهى قدرة مدونات الأحاديث التاريخية والمذاهب الفقهية على تجميد عقل المعاصرين وشل إرادتهم.&

.. ولاهوت إيجابى ينهض على علاقة جدلية بين الله والإنسان، يدرك أن الله هو القطب المركزى فى الوجود ولكن الإنسان ليس عدما، بل قطب ثان، لا يمكن تصور كمال الله من دون وجوده، فإبداعية الإنسان الخلاقة، هى الدليل الأبرز على الكمال الإلهي، لاهوت لا يبرر للمسلم الانتظار السلبى الخجول لملكوت السماء فى عالم الغيب، ولا يدفع به، فى المقابل، إلى سرعة استدعائه بالشهادة المزيفة، والإرهاب العبثى، الذى يقض مضاجع الأحياء، ويعيث فسادا فى الأرض بل القيام بفعل حضارى منظم لتحسينها، وعمارتها، ونشر قيم المحبة والسلام فيها، كونه المستخلف من الله عليها.&

وأخير ليس آخرا، لاهوت إنساني، يرى أن الأديان للإنسان، وليس الإنسان للأديان، فالله ليس الدين، بل رب الدين، الذى خلق الإنسان، ومنحه الدين عطية روحية وعقلية ترشده إلى الطريق القويم، الذى بنهايته تتحقق الخلافة الحضارية على الأرض،حيث التمدن والتحرر، والتقدم، مع الإيمان، وليس الخلافة السياسية على طريق الهيمنة التقليدية الأموية أو العباسية أو العثمانية حيث القهر والقمع هما الأصل والفرع والإسلام ليس إلا قميصا للتمويه وستارا للتبرير. أو على طريقة الهيمنة الداعشية حيث العبث والهمجية يحيلان الإنسان إلى مجرد قربان يتوجب التضحية به على مذبح إمارة جاهلة أو خلافة متوهمة..

&ولحسن الحظ، فإن النص القرآني، برؤيته الرائقة للوجود، ينطوى على مثل هذا اللاهوت، حيث الاعتراف بالله الواحد، وباستقلاله المطلق عن الكون والطبيعة، يعكس نزوعا مقابلا للاعتراف بالإنسان (الموحِّد)، باعتباره، كائنا مستقلا ومكافئا للآخرين جميعا؛ فالتوحيد المطلق، يمثل قاعدة صلبة وضمانة صلدة للمساواة بين بشر فقدوا صفات السمو على غيرهم، وتواضعوا جميعا أمام الذات الإلهية، فاللحظة التى يتسامى فيها الله على الوجود البشرى بمجمله، هى نفسها التى يتساوى عندها البشر فيما بينهم. بل ويبلغ هذا البعد التحررى أفقا وجوديا بامتياز بفضل الجوهر التنزيهي؛ فإذا كانت وحدانية الله تتميز بالشمول والخلود والأزلية مع الأبدية، فعلى كل مسلم يؤمن به حقا، كى يستحق هذا الوصف، أن يسعى ليكون هو الآخر واحداً، ذاتا متفردة، يتمتع بشخصية ناضجة، واستقلال مطلق فيما يخص فعل الإيمان بالذات: «ولقد جئتمونا فرادي، كما خلقناكم أول مرة» (الأنعام: 94). وفى آية أخرى اونرثه ما يقول ويأتينا فرداً» (مريم:80). وفى آية ثالثة «اوكلهم آتيه يوم القيامة فرداً» (مريم: 95). فالشهادة بوحدانية الله لن يكون لها معنى حقيقى أو يترتب عليها أثر إيجابي، إلا إذا كانت الذات الشاهدة مستقلة وحرة وعاقلة، تطلب الله لذاته، كما تطلبه بضميرها.

&ومن ثم يؤكد القرآن أن طاعة الإنسان المطلقة لآخر هى شعبة من الشرك، حتى لو كانت لمشايخ التقليد، ناهيك عن الدعاة الموتورين، لأن الإنسان لا يمنح هذه الطاعة لإنسان آخر يشعر جوهريا أنه مثله، ولا يتخلى عن حقه فى التفكير والتعبير إزاءه إلا إذا اعتبره خالياً من الخطأ منزهاً عن النقص، أو ظنه قادرا على إيقاع النفع له والضرر به، والاعتقاد بوجود هذه الصفات فى غير الله هو أصل كل شرك، وجوهر كل خضوع للوصاية وشعور بالقهر. وهكذا يمنح الإسلام لمن يعتنقه طاقة تحرر هائلة، فأن تكون مؤمنا حقا هو أن تختار الله بعقلك وإرادتك فعلا، وأن تدير علاقتك بالآخرين على قاعدة الحرية الكاملة والمسئولية الكاملة عما تفعل. غير أن هذا الفهم قد هزم مرارا فى تاريخ الإسلام، عندما هزم الإنسان نفسه، وأُريقت دماؤه على مذبح أولى الأمر، عندما صعدت الدول على أسنة المذاهب، وتأسست المذاهب على رماح الدول، حيث السلطان يرعى الفقيه، والفقيه يبرر السلطان، وما بينهما سقط العقل، أمانة الله فى الإنسان، مغشيا عليه، ملقيا فى غياهب النسيان، خلف حجب الوصاية والكهانة، ونزعات الإتجار بالأديان.