&&عادل درويش&

&تكون جنين هذا العمود أثناء متابعتي تغطية الصحف لوفاة بطل العالم في ملاكمة الوزن الثقيل محمد علي، الذي تزداد قيمته التاريخية ليس لأنه الوحيد الفائز باللقب ثلاث مرات، بل لأنه أصبح «role model» قدوة نموذجية للشباب عالميا، وليس فقط الأقليات والسود الأميركيين، ومثالا للمبادئ، برفض التجنيد في حرب فيتنام.

أثناء تغطيتي لزيارته للندن في 1974، غضب بشدة عندما ناداه بعضنا «مستر كلاي» صارخا «محمد علي اسم اخترته بحرية، بدلا من كاسيوس كلاي اسم العبودية في شهادة الميلاد وأنا دون سن الرشد». الصحافة العربية، استثناء من صحافة العالم، تصر على تسميته «محمد علي كلاي».

هل الذهنية العربية ترفض حق الفرد في حرية الاختيار، وتسير خارج حركة تطور الواقع الاجتماعي في عالم ديناميكيته حرية الحركة والمرور والتواصل وتحرر الفرد من قيود الدولة وسيطرتها؟

ولعل علماء السيكولوجيا والأنثروبولوجيا والاجتماع السياسي يدرسون الظاهرة، فلم أجد إجابة مقنعة لظاهرة «كلاي» لدى الصحافيين العرب!

بطاقات تعريف الكتاب والأكاديميين على مواقع الصحف والشبكات والمعاهد العربية معلوماتها مضللة.

هل هو الكسل أم ذهنية توارث المعرفية النمطية «stereotype».

28 شخصية على هذه المواقع أعرف يقينا أن جنسياتهم أوروبية وأميركية (جنوبية وشمالية) وأسترالية. المواقع لا تعرفهم حسب الجنسية القانونية، بل حسب بلدان المولد تخمينا. كاتب فلسطيني المولد وآخر ليبي المولد يعرفان بـ«لبناني» و«مصري» لأنهما ينطقان بلغتي لبنان ومصر، بينما جنسيتهما كندية وأميركي. المسؤولون عن الموقع «خمنوا» الجنسية من اللغة.

فرنسيون وسويديون تعرفهم المواقع بـ«صحافي عراقي» أو «كاتب مصري»... إلخ.

ضمن هؤلاء الـ(28) 11 مواليد بلدان لا تسمح قوانينها بازدواج الجنسية، فالأسترالي أو البريطاني منهم مثلا أسقطت عنه جنسية بلد المولد قانونيا، لكن المواقع العربية (وكتاب بعضها ينتقدون الآخرين في عدم الدقة) تصفهم بمعلومات خاطئة، ولعل السبب ذهنية وطريقة تفكير معينة لمحرري المواقع.

كصحافي دائم السفر، زرت أكثر من 80 بلدا، نادرا ما يتطرق ضابط الجوازات لمسائل شخصية، باستثناء أكثرية البلدان العربية، حيث يسألك ضابط الجوازات في المطار «ما الجنسية الأصلية؟»، إذا كان اسمك ليس فرنسوا مونيه أو كلاوس شوارتزمان. سؤال مفاجئ إذا كانت ثقافتك بريطانية تحرم التطفل على أمور شخصية. وأذكر أنني رفضت الإجابة مرة، وعندما كرر الضابط السؤال رددت ببرود شديد بأدب مبالغ فيه: إنه شأني الخاص كشخص خجول. وإذا كان قانون بلاده يتطلب ذلك، فأرجوا أن يقبل اعتذاري الشديد لتضييع وقته، ولا داعي لختم الباسبور، وسأعود أدراجي، وسأرسل اعتذارا كتابيا للمسؤولين عن حضور المؤتمر المنعقد، وهو خطئي لأني نسيت سؤال سفيره عند تناولي القهوة معه في لندن عن إجراءات الدخول القانونية.

اعتذر الضابط ضاحكا: «ما تزعلش يا بيه.. موش مطلوب قوي بس دردشة تعارف.. إنت إنجليزي قوي ليه يا بيه؟».

لاحظ الإجابة: لا يوجد سبب قانوني للاستفسار عن جنسية سابقة أو مزدوجة، وإلا ظهر على بطاقة الدخول أو استمارة طلب الفيزا.

إصراري على الخصوصية، والاكتفاء بإجابة أسئلة مطلوبة قانونيا فقط لا يقبله ما تعود عليه تفكيره «إنت إنجليزي قوي».. باستغراب شديد.

كثير من العرب الذين درسوا ويعيشون في الغرب لسنوات طويلة لا تزال رواسب هذه الثقافة التي تجعلهم يرفضون حرية الفرد في الاختيار والتطور مع تيار التحرر العالمي، تقيد أفكارهم. فمثلا أمر معتاد أن يعمل طلاب الجامعة أو الدراسات العليا في الغرب في المساء، أو عطلة نهاية الأسبوع في المطاعم والفنادق، أو سائقي تاكسي أو فرز الطرود، للمساعدة على دفع نفقات المعيشة. وهناك سكرتيرات وعاملات نظافة في مؤسسات بريطانية أصبحن من كبار الصحافيات ومقدمي البرامج بعد إكمال الدراسة، وتتفاخر هذه المؤسسات بذلك. العكس عند العرب وبعض معلقيهم وصحافييهم، إذا أرادوا النيل من خصم فكري على صفحات الصحف يقولون «فلان.. الذي كان جرسونا، أو عامل نظافة... إلخ»، رغم أنه كان يعمل جرسونا ست ساعات أسبوعيا، ويدرس للدكتوراه 60 ساعة أسبوعيا قبل 15 عاما من تبادل الهجاء.

بدت هذه الظاهرة الأنثروبولوجية الثقجتماعية العربية في متابعة حملة الاستفتاء على الاتحاد الأوروبي. في مناقشة مع جمهور من البريطانيين العرب في الاستوديو، كانت الأولويتان الهجرة والاقتصاد والخدمات، أما الديمقراطية وحق تغيير الحكومة بالانتخاب (إحدى أهم الأولويات عند البريطانيين بسبب غيابها عن الاتحاد الأوروبي)، فلم تذكرها إلا مداخلة تليفونية واحدة (من مجموع 28 مداخلة في الاستوديو و«تويتر» والتليفون) تحدثت صاحبتها جملا إنجليزية أكثر من العربية (الركيكة)، أي أن تفكيرها ذهنيا متأنجلز. ملحوظة مهداة لمن يريد التعمق في درس الظاهرة. مصوتة عربية للبقاء لأنها تتلقى علاجا طبيا متقدما في بلدان أوروبا عند السفر - وبدت عليها الدهشة عندما ذكرتها بأنها يمكن لها كبريطانية تلقي العلاج المجاني المتقدم في بلدان، كسويسرا والنرويج وآيسلندا، وهي ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي (ملاحظة أخرى عن ثقافة التفكير العربي في البحث عن المعلومة خارج ما تقدمه الصحافة).

أما نقاش «مثقفين» عرب كبار عاشوا في بريطانيا وأوروبا لسنوات على «فيسبوك» فمأساة بليتها تفوق في الضحك اجتماع طيبي الذكر إسماعيل يس ونجيب الريحاني ومحمود شكوكو مجتمعين. ومثل ضابط الجوازات، أي اسم غير أنغلوساكسوني يدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي يفقدهم التوازن تماما. ويشاركهم في ذلك مثقفون إيرانيون لجأوا لبريطانيا هروبا من بطش الثورجية الخومينيجية. لا يقدمون أرقاما أو أسبابا اقتصادية أو سياسة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، بل شعارات كـ«العمل الجماعي والوحدة قوة» أو «الرئيس أوباما ورؤساء العالم نصحوا بذلك» أو السبب (الذي يحتاج تفسيره لدراسة أنثروبولوجية ونفسية اجتماعية)، وهو أيضًا ما يسوقه الإيرانيون، وهو أن بين زعماء حملة الخروج (أقل من 10 في المائة من الحملة) «يمينيين عنصريين» (وهو انطباع، وليس حقيقية بأدلة دامغة) يشوهون صورة القادمين من «منطقتنا من العالم»!

منطقتنا من العالم تركناها مجبرين قبل 55 عاما، ولا نحمل جنسية بلد فيه!

العقلية نفسها التي تصر على تسمية محمد علي بلقب العبودية «كلاي»، بعد نصف قرن من خياره تحرير هويته. وعندما تواجه هذه العقلية الحقيقة البديهية بحق الفرد في خصوصيته واختياره تفقد توازنها الذهني.

&

&&

&