&بد المنعم سعيد&&

سبق في هذا المقام أن جرى التمييز بين «داعش» و«الداعشية»، فالأول تنظيم يمكن هزيمته وتدميره، والآخر مذهب ينبغي مكافحته، وهو الأكثر صعوبة بين الأمرين. والآن يمكن بقدر من اليقين التأكيد على أن «دولة الخلافة» الداعشية المزعومة بين سوريا والعراق ستزول، وهناك ما يكفي من الشواهد على أنها تتراجع وأن جنودها يهربون، وأصبحت الموصل والرقة على مرمى بصر تحالف دولي وإقليمي مصمم على الخلاص منها، وربما ما يؤخر العملية كلها أن الأطراف المشاركة لا تنظر إلى نتيجة المعركة، وإنما إلى كيف سيكون حال الشرق الأوسط بعدها، وهنا تصير المعركة السياسية والدبلوماسية الجارية الآن. ولكن ذلك ليس موضوعنا الآن؛ فالأهم هو كيف لا نكسب المعركة ونخسر الحرب، وننتصر على «داعش»، بينما تنتصر «الداعشية» التي يبدو أن هزيمتها في الهلال الخصيب فتحت الباب لانتشار أوسع على مدى الكون كله ظهر في عمليات إرهابية غطت الكثير من الدول، وبدت في أشكال مختلفة يستخدم فيها عمليات خاصة، وذئاب منفردة، وانتحاريون، وحتى من ليس معه إلا سكين.

وبصراحة، فإن عبء الانتصار على «الداعشية» هو مهمة عربية في المقام الأول، ليس لأننا نتحمل المسؤولية وحدنا؛ فقد كانت هناك أدوار كثيرة لدول وجماعات من الدول الأخرى، منها الاحتلال والانسحاب لأميركا وحلفائها من العراق وأفغانستان، ومنها سلوكيات دول إزاء الأقليات العربية والإسلامية فيها؛ ولكن لأننا من ناحية مهددون بالتوالد المستمر للإرهابيين، ومن ناحية أخرى لأننا المسلمين، والسنة منهم تحديدا، هم أول الضحايا وأول المتهمين. وربما يمكن وضع سبب إضافي، وهو أننا أكثر من يملك القدرة الفكرية على التعامل ليس فقط مع فكر «الخوارج»، وإنما أيضا خوض معركة العقول والقلوب التي علينا أن نعترف بأن «داعش» اكتسبت فيها مهارات كبيرة. فهي تمثل «الجيل الرابع» من الإرهابيين والراديكاليين المتطرفين، الذي أتى بعد الجيل الأول، الذي مثلته حركة الإخوان المسلمين، والجيل الثاني الذي ظهرت فيه الجماعة الإسلامية والجهاد ومشتقات كثيرة منهم، والجيل الثالث الذي جاءت فيه «القاعدة». وبقدر ما كان كل جيل قادم من أضلع جيل سابق، فإن الأجيال الأربعة بقيت متجاورة ومتصارعة في الوقت نفسه، ولكنهم جميعا، وفي كل الأوقات، ظلوا يسعون باستخدام أدوات مختلفة لتدمير الدولة العربية المعاصرة.

جميعهم كان لديهم «الخطاب لديني» وإلى جواره «الخطاب الحركي»، الأول يحمس ويحشد، والآخر ينظم ويرهب ويقتل. الأدوات تمايزت من الخطابة والكتابة (حسن البنا وسيد قطب)، والتآمر والاغتيال (عبود الزمر)، والتلفزيون والرسائل (أسامة بن لادن وأيمن الظواهري) والاستخدام الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي (إبراهيم البغدادي). كل جيل منهم أمسك باللحظة التاريخية والتكنولوجية، واستخدمها لتحقيق أكثر الأهداف خسة ونذالة باسم الدين الإسلامي، مستغلا الظروف الاجتماعية والاقتصادية. ورغم أن الحركة الأم والجيل الأول هو الذي مهد الطريق، وحقق الانتشار على مستوى العالم، فإن الجيل الرابع أصبح الأكثر شراسة، وانتشارا، وهو من وضع حلم «الخلافة» على أول الطريق أمام شباب ينتشر باتساع الدنيا كلها من خلال «تويتر» و«فيسبوك» وغيرهما وسائل حديثة وتعمل على مدار الساعة.

في كتاب بيتر بيرجين «الولايات المتحدة للجهاد» الذي درس فيه حالة 330 متطرفا أميركيا، ذُكر أنه ما بين سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الأول) 2014، كان هناك 46 ألف حساب على «تويتر» تعمل لصالح «داعش»، فضلا عن «يوتيوب» الذي بات يستخدم بكفاءة كبيرة وعلى مدار اليوم لكي يكرس حالة «الضحية» و«العقدة التاريخية»، ولكن، وبجوارها القدرة على الذبح والانتقام وتحويل الغضب إلى أنشودة مدمرة. لم يعد هناك تلك الأحاديث المطولة والرتيبة التي يبثها أيمن الظواهري لأنصاره، ولا المطولات الفقهية لتبرير الإرهاب، وإنما «فيديوهات» ملونة تلهب الخيال المريض وبالألوان لأفضال القتل والخطف والإرهاب والتدمير. أصبح الأمر كله في النهاية شبكة معقدة لاستنهاض أكثر المشاعر خسة، وأكثر العقول نذالة، ودفعها دفعا في اتجاه تدمير المجتمعات المعاصرة، سواء كانت في العداء القريب أو البعيد.

هذه المعركة، سواء سقطت الرقة اليوم أو غدا، ستستمر معنا ولن يعني الانتصار في المعركة المقبلة نهاية الحرب التي ستحتاج ما أكثر من حكمة الساسة وعبقرية الجنرالات. ورغم أنه تكون خاصة في الغرب أدب كبير عن الإرهاب والإرهابيين، فإن ما خرج من العالمين العربي والإسلامي لم يكن لا شاملا ولا كان عميقا. وظل الاتجاه السائد لمواجهة «الداعشية» يعتمد من الناحية على فكرة «تجديد الفكر الديني» ومعه من الناحية الأخرى الاعتماد على المؤسسات الدينية القائمة للقيام بهذه المهمة. مثل ذلك ليس كافيا، بل إن إمكاناته محدودة؛ لأن «التجديد» في بعض الأحوال لا يصير تجديدا حقيقيا يفصل بوضوح بين ما سمّاه الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية الأسبق، ما بين «الإسلام المصدري» المعتمد على القرآن وصحيح السنة المطهرة؛ و«الإسلام الزمني» الذي اختلطت فيه شوائب الزمن مع فساد المصالح وتجاوز الأزمنة. والحقيقة، أن المؤسسات القائمة على أهميتها ومركزية دورها، إلا أنها تظل تقليدية ومحافظة، ولديها تخوف مشروع من اختلاط الدفاع عن الإسلام بالهجوم عليه.

ولأن الأمر في الأول والآخر يحتاج إلى ما هو أكثر، فإن نقطة البداية تكون بالمعلومات والمعرفة، وبدايتها أن يكون هناك مؤسسات متخصصة في شؤون الإرهاب تختلف عما هو قائم في المؤسسات الأمنية في الدول العربية كافة؛ لأن تركيز هذه على «مكافحة الإرهاب» معنية بالانتصار على الإرهابيين بأكثر من قدراتها على اقتلاع جذوره الفكرية. ولعل المهمة الأولى للمؤسسات العربية المتخصصة في مكافحة الإرهاب أن تكون هناك دراسة حالات الإرهابيين الذين تم القبض عليهم قبل أو بعد القيام بعمليات إرهابية، وسواء صدرت ضدهم أحكام قانونية أو لم تصدر. هؤلاء الموجودون في السجون العربية يعدون بالآلاف، وعنهم توجد معلومات لا حصر لها عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تعطينا نقطة البداية عمن هو الإرهابي، وما الذي جعله يصبح إرهابيا، ولماذا بات القتل لديه نوعا من المتعة البدنية والذهنية، والأهم من ذلك كله ما الفكر الذي جعله يجري معصوب العينين في اتجاه الإرهاب، و«الداعشية» بشكل خاص باعتبارها على قمة الأجيال الإرهابية الآن.

هذه المؤسسات البحثية المدنية التي تتبع أحدث أساليب البحث العلمي عليها أن تبحث عن «نقطة الانحراف» التي عندها تنقلب القراءة للدين الصحيح إلى قراءة أخرى مدمرة. وكيف أن دينا كان أكثر أديان البشرية تكيفا مع البيئات المختلفة، وكان حتى وقت قريب أكثر الأديان صعودا بين شعوب العالم، يصبح الآن أكثر الأديان في العالم المتهمة بالعنف والإرهاب؟ هل يمكن للجامعة العربية أن تبدأ بمثل هذه المهمة، أم أن دولا عربية تستطيع أن تقود على هذا الطريق؟ مثل ذلك لا يمكن أن يكون جهدا فرديا؛ لأن الإرهاب لا جنسية له، ولا فارق في ذلك بين من ولد في دولة عربية أو من عاش في فرنسا والولايات المتحدة.

&

&