صالح القلاب 

 حتى لو أن بشار الأسد سيرضخ للأمر الواقع ويستجيب لما جاء نصًا في «جنيف1» ويقبل بالمرحلة الانتقالية، التي لا مكان له فيها، فإنَّ السؤال الذي يجب طرحه الآن وقبل مؤتمر الـ«أستانة» هو: هل يا ترى أن هذا الذي يواظب على الذهاب إلى القصر الجمهوري في دمشق، والذي بقي خلال معظم الست سنوات الماضية مجرد «شاهد ما شافشي حاجة» قادر على التحلي بالشجاعة واتخاذ قرار تنحيه وترك الشعب السوري يعيد صياغة مسيرته السياسية والاجتماعية، ويرسم المستقبل الذي بقي يحلم به ويسعى إليه، ليس منذ عام 1970 ولا عام 1963، بل منذ أول انقلاب عسكري في عام 1949؟!
إنَّ هناك قوى متنفذة ذات مصالح ستبادر، إنْ جدَّ الجدُّ، لإلزام بشار الأسد بعدم التنحي وترك السلطة والتخلي عن هذا النظام لا وفقًا لـ«جنيف1»، ولا وفقًا لغيره... وهنا فإن هناك من يرى أنه من غير المستبعد أن تلجأ هذه القوى إلى القوة العسكرية لفرض ما تريده، ولعل ما تجدر الإشارة إليه أن وجود هؤلاء المستفيدين من هذا النظام، الذين سيدافعون عن بقاء مصالحهم حتى الموت لا يقتصر على الطائفة العلوية وحدها، بل يتعداها إلى الطوائف كلها، وحتى إلى قطاع واسع من العرب السنَّة.
ثم إن هناك إيران التي لا يمكن أن تتخلى عن «لقمة» ترى أنها أصبحت في الفم، والتي تعتبر ثورتها، ثورة الخميني عام 1979، ثورة عالمية شاملة، وحيث تحدث قادتها السياسيون والعسكريون، وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي، مرارًا وتكرارًا عن أنهم سيقيمون «الدولة الإسلامية» التي يريدونها في العالم كله، وحيث قال بعضهم إنهم بعد الانتصار في حلب سينتقلون إلى البحرين واليمن وإلى دولٍ أخرى لها على تماسٍّ مع «دولة العدو الصهيوني»!!
إنه غير ممكن وعلى الإطلاق أن تلتزم إيران بما يسمى «المبادرة الروسية - التركية»، التي وافق عليها مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الأخير بالإجماع، فهذه الدولة، التي بادرت إلى «التطلُّع» وراء حدودها الغربية بمجرد انتصار ثورة عام 1979، التي خاضت حرب الثمانية أعوام الخاسرة مع العراق، بسبب هذه التطلعات التوسعية، لا يمكن أن تسمح لرئيس النظام السوري، الذي أصبح مجرد ألعوبة في يد مرشدها الأعلى، وفي أيدي جنرالات حراس ثورتها، بالتنحي حتى ولو استجابة لرغبة الروس والأتراك والعرب كلهم ومعهم العالم بأسره، وذلك، وحتى وإن اضطروا، أي الإيرانيون، لترتيب انقلاب عسكري ضده ببقايا هذا الجيش الذي لا يزال يحمل اسم «الجيش العربي السوري» ومعه «حزب الله» والميليشيات الطائفية المستوردة التي وصل عددها إلى ستة وستين تنظيمًا من بينها الحشد الشعبي (العراقي) بقيادة هادي العامري... والصحيح بقيادة قاسم سليماني.
وهذا يعني أن هذا النظام البائس حقًا، سيبقى، وبأوامر من إيران، يفتعل اشتباكات جانبية مع قوى المعارضة والجيش الحر بحجة وذريعة مواجهة «داعش» و«النصرة» الإرهابيين للإطاحة بالمبادرة الروسية - التركية التي تبناها مجلس الأمن الدولي. وهنا، فإن المفترض أن كل الأطراف وكل الدول المعنية فعلاً بإنجاح هذه المبادرة تعرف أنه لولا ميوعة الإدارة الأميركية «الراحلة»، ولولا تلك اللعبة التي لعبها الروس وعلى مدى نحو ستة أعوام ماضية، وهذا بالإضافة إلى الدور المذهبي والطائفي القذر الذي لعبه الإيرانيون، لكان بشار الأسد ونظامه الآن «في خبر كان»، ولأصبح الشعب السوري حاليًا على بر الأمان!!
إن الإيرانيين يعرفون أنهم إنْ نجحت المبادرة الروسية - التركية فعلاً وتم إخراجهم من كل الأراضي السورية، واقتلاع نفوذهم السياسي وتأثيرهم الطائفي من هذه الدولة العربية، فإن محاولات هيمنتهم على اليمن ستفشل، وعلى الفور بالتأكيد، وأن دويلتهم المذهبية في ضاحية بيروت الجنوبية ستنتهي، وبالتالي فإن نفوذهم الاحتلالي في العراق سيتقزم بالتدريج، ولذلك فإن خيارهم الوحيد الذي لا خيار غيره، هو أنهم سيخوضون هذه المعركة التي يعتبرونها المعركة الحاسمة الأخيرة حتى النهاية، وأنهم لن يتورعوا عن إسقاط بشار الأسد، حتى إن لزم الأمر، بانقلاب عسكري إن هو أصر على الاستجابة لما جاء في «جنيف1»، وما جاء في القرارات الدولية المؤيدة لحل المرحلة الانتقالية التي لن يكون له فيها أي مكانة، وأي دور فعلي، وهنا فإنَّه لَيْس أغلب الظن فقط، بل المؤكد أن الرئيس السوري الذي لم يعد له من الحكم في سوريا إلا المقعد الذي يجلس فوقه في القصر الرئاسي سيبقى يفتعل المشكلات والإشكالات التي بقي يفتعلها بإسناد إيراني وروسي للحفاظ ولو على هذا المقعد فقط.
ربما أن هناك من يرى أن كل هذه اللعبة؛ لعبة اجتماع موسكو الثلاثي ولعبة وقف إطلاق النار الذي لا يزال يُخترق يوميًا، خصوصًا في ضواحي دمشق، ولعبة اجتماع مجلس الأمن الدولي وتبنيه للمبادرة الروسية – التركية، ولعبة اجتماع الـ«أستانة» في كازاخستان، هي لعبة روسية، وأن الرئيس فلاديمير بوتين بعدما حقق ما كان يريده، وأصبحت روسيا قوة عظمى فاعلة لها قواعد عسكرية وأساطيل بحرية على شواطئ المتوسط الشرقية، فإنه من غير المستبعد أن يبادر إلى «تنفيس» كل شيء، ويبقي الأمور على ما هي عليه الآن، ومع الحفاظ على بعض اللمسات التجميلية التي ستزول في النهاية بحكم مستجدات كثيرة.
لكن ولأنه لا يجوز التعاطي مع كل الحركات التاريخية وفقًا للاستنتاجات التآمرية، فإنه علينا أن نستبعد كل هذا التفكير الظلامي، وحتى وإن كان أصحابه يستندون إلى «حقائق» كثيرة، فالرئيس فلاديمير بوتين بعد أن حقق ليس بعض (وإنما كل) ما أراده في هذه المنطقة، فإنه لم يعد يريد حربًا مستمرة مكلفة في سوريا إلى ما لا نهاية؛ فما كان جرى في أفغانستان لا يزال حاضرًا في ذهنه ومخيلته، ولذلك ولأنه لا يريد بقاءً مزعجًا للإيرانيين في هذا البلد، ولا حتى في العراق واليمن ولبنان، ولا يريد بقاءً لرئيس النظام السوري الذي يعني بقاؤه أن هذه الحروب ستستمر ولن تتوقف، فإن ما هو واضح حتى الآن أنه جادٌّ في هذه المبادرة التي يشاركه فيها رجب طيب إردوغان، والتي أصبحت بعد قرار مجلس الأمن الأخير مبادرة دولية... وكل هذا إن حسنت النيات، أما إن هي ساءت، فستكون هناك ورطة فعلية في انتظار روسيا ومعها تركيا والعديد من دول هذه المنطقة وبعض دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
لكن ورغم هذا التفاؤل، الذي يرى البعض أنه زائد عن الحدود، وأنه لا يأخذ بعين الاعتبار ألاعيب الدول القادرة على التلاعب، ومن بينها روسيا بالتأكيد، فإن هناك من يعتقد جازمًا أن كل هذا الذي بقينا نراه قبل وبعد «حرب حلب» هو مجرد مناورات وألاعيب سياسية، ولذلك فإنه غير مستبعد أن يغير الروس خط سيرهم الأخير فجأة وأن يعودوا إلى مناوراتهم السابقة خلال سنوات هذه الأزمة السورية كلها، وذلك على أساس أن «الطَّبع يغلب التطبع دائمًا وأبدًا»!