مأمون كيوان

تعاقبت على منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية منذ عهد الرئيس جورج واشنطن 68 شخصية سياسية وعسكرية، برز منهم جورج مارشال في عهد الرئيس هاري ترومان؛ وجون فوستر دالاس في عهد الرئيس آيزنهاور؛ وجيمس بيكر في عهد بوش الأب ومادلين أولبرايت في عهد بيل كلنتون؛ وكوندوليزا رايس في عهد الرئيس جورج بوش الابن؛ وهيلاري كلنتون وجون كيري في عهد الرئيس باراك أوباما.
لكن حظي وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق هنري كيسنجر الذي شغل هذا المنصب في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد؛ بشهرة واسعة. وذلك لدوره البارز في التعامل مع رزمة قضايا دولية هامة. إذ إنه صاحب سياسة "صين واحدة" فقط، والتي تمنع الاعتراف الرسمي بتايوان، حتى على الرغم من أنها تسمح للولايات المتحدة بتسليح الجزيرة. وهو مهندس صفقات السيطرة على الأسلحة النووية "سالت-1" و"سالت-2"، وهو مبتكر سياسة "الخطوة – خطوة" في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط الساخنة مثل القضية الفلسطينية والمجريات العملية العسكرية والاقتصادية والتداعيات السياسية لحرب أكتوبر 1973. إضافة إلى دوره في مفاوضات جنيف التي تكللت بانتهاء حرب أميركا في فيتنام. وساعد في هندسة انقلاب عام 1973 الذي أسقط الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور أليندي.
كما أن مؤسسة كيسنجر الاستشارية الخاصة، تقدم المشورة الإستراتيجية لحكومات أجنبية وشركات كبيرة منذ عام 1982.
ورغم بلوغه الثالثة والتسعين من العمر ومضي 40 عاماً على مغادرته وزارة الخارجية الأميركية، ورغم أن الرؤساء الأميركيين المتعاقبين بعد الرئيس الأسبق فورد، ووزراء الخارجية الذين خلفوا كيسنجر استشاروه أو استمعوا إلى نصائحه؛ إلا أنه مع انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة فإن ثمة عودة وتجديدا لأسس السياسة الكيسنجرية بررها نيال فيرغوسون، المؤرخ وواضع السيرة الذاتية لكيسنجر، بقوله "السبب في أن ترمب عول على كيسنجر هو أنه يرى فيه ألمع منظر جيوسياسي وممارس دبلوماسي خبير في الولايات المتحدة اليوم، وهو يدرك أنه يستطيع استخدام نصيحة كيسنجر لترتيب أولوياته الإستراتيجية".
لقد داوم كيسنجر في الأعوام القليلة الماضية على القول إنه سيكون ضرباً من الذكاء إيجاد طرق للعمل عن قرب أكثر مع الرئيس بوتين. وفي كلمة له في فبراير 2016 في مؤسسة غورتشاكوف في موسكو، قال "في النظام متعدد الأقطاب الناجم، سوف تشعر روسيا بأنها عنصر أساسي في أي توازن عالمي جديد، وليس كتهديد للولايات المتحدة بشكل رئيسي". وينسجم هذا المنظور جيداً مع وجهة نظر ترمب الخاصة، التي تقول: إنه يمكن التوصل إلى صفقة مع بوتين.
وتحدث هنري كيسنجر إلى جيفري غولدبرغ في مجلة أتلانتيك، ووجد أهمية وتداعيات كبيرة لفوز ترمب على السياسة الخارجية الأميركية بقوله "قد يمكننا من إقامة تماسك بين سياستنا الخارجية ووضعنا الداخلي. من الواضح أن ثمة فجوة بين التفكير العام لدور السياسة الخارجية لأميركا وتفكير النخبة. وأعتقد أن الرئيس الجديد يتمتع بفرصة للمصالحة بين التفكيرين. أمامه فرصة، ولكن عليه اغتنامها".
ويعتقد أيضاً أنه "في بعض الأحيان، ستتطلب الأحداث اتخاذ قرار. الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة يمكن أن تكون مجموعات لا تنتمي إلى دول. قد يكون لديها حافز لإثارة رد فعل أميركي يقوض موقعنا العالمي. والجماعات التي لا تنتمي إلى دول تعتبر أن ترمب سيرد على هجوم إرهابي في طريقة تلائم أهدافها".
وقد سبق لكيسنجر أن كتب في كتابه "الدبلوماسية" الذي صدر في عام 1994 "لا تعرض دراسة التاريخ أيَّ دليل استخدام يضم تعليمات يمكن تطبيقها بشكل آلي؛ التاريخ يعلمنا عن طريق القياس، وإلقاء الضوء على التداعيات المحتملة للمواقف المتماثلة. لكن على كل جيل أن يقرر لنفسه الظروف التي تكون قابلة للمقارنة فعلاً". وأصر على ألا يُساء استخدام التاريخ، وعلى ألا يفضي تقييم الماضي إلى استنتاجات خاطئة للحاضر أو المستقبل.
ولا يحسم هذا القول السجالات الراهنة الساخنة حول كنه سياسة ترمب الخارجية التي يعتقد البعض أنها تمثل "كيسنجرية جديدة" في حين يعتقد آخرون أنها إحياء "للريغانية" ومبدئها الرئيس، مبدأ "السلام من خلال القوة" الذي أكد أن وجود ولايات متحدة قوية كان ضرورياً لضمان السلام والاستقرار الدوليين عن طريق إظهار عبثية تحدي القوة الأميركية.
الأيام والأشهر القادمة ستكشف عن طبيعة "مبدأ ترمب" الموجه للسياسة الخارجية الأميركية، وهي طبيعة ذات صلة مباشرة بواقع القوة الأميركية ومكوناتها الرئيسية.