محمد الرميحي
هل من باب الترف أن تُعقَد في الكويت ندوة بحثية بعنوان «حل المنازعات والعمل الإغاثي»؟ عندي أن الإجابة هي «لا» قاطعة. فقد استضافت الكويت ثلاثة لقاءات عالمية من أجل جمع الأموال للعمل الإغاثي في سوريا، ولقاء آخر رابع عالمي، وقد تم جمع ما يبلغ مجموعه 1.6 مليار دولار في الاجتماعات الأربعة، وتخطط لاجتماع خامس في الكويت. وهي جهود يعاضدها العمل الإغاثي في العراق، وأيضًا مركز الملك سلمان للإغاثة في اليمن.
الإغاثة والعمل الإنساني هما الوجه الآخر لتفاقم الصراعات في منطقتنا، وهما وجه إلى حد كبير مسكوت عنه، وأيضًا يحتاج إلى كثير من الاهتمام والتشبيك على مستوى المنطقة، بل والإضاءة عليه إعلاميًا، لا من أجل إظهار الوجه الإنساني له، وهو حقيقة، ولكن من أجل هدف أهم، وهو الإشارة بقوة إلى المعاناة الإنسانية الرهيبة التي تواجه المنكوبين في الجوار العربي، وتواجه المجتمعات التي اندلع فيها الصراع في شمال العراق وكل سوريا، ومناطق أخرى يتكثف فيها النزاع في جوارنا العربي، والتفكير بصوت عالٍ في خطط ما بعد الإغاثة، والأخيرة تنقص العمل الإغاثي العربي.
المتوقع أن هذه النزاعات سوف تطول في الزمن وتتسع في المساحة وتولد نزاعات أخرى، بسبب تغير في النظام الدولي. فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين أسوأ لحظات التاريخ المعاصر، وأكثرها سوادًا، حيث شهد حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، وتركتا ضحايا بالملايين، كما شهد كسادًا عالميًا ضخمًا، وإبادات جماعية، وقمعًا هائلاً، جرى ذلك بين قوى غربية كبرى في مجابهة أزمات اقتصادية وجيوسياسية غير مسبوقة، جعلت بعض تلك الدول تنكمش إلى الداخل، وتتمنى أن تخفض رأسها حتى تتجاوزها الكارثة، ولكن لم يكن هناك مكان للهروب أو الاختفاء، واجتاحت الكارثة كل تلك الدول المتحاربة وجوارها، بصرف النظر عمّن أسهم في الحرب بشكل مباشر أو بقي على بُعد؛ الكوارث عندما تحل لا تُفرق.
عندما تأمل الساسة الغربيون ما فعلوه في شعوبهم وأوطانهم تكاتفوا على ألا يعيدوا أخطاءهم، وخلقوا نظامًا دوليًا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، مبنيًا على تعاون مشترك لصالح الجميع، بدلاً من الصراع النابع من المصالح الأنانية، وركنوا إلى أن السياسات الخارجية والاقتصاد الدولي، يمكن أن يكونا لعبة فريق، بدلاً من لعبة فردية! لذلك ربطوا بلدانهم من خلال مؤسسات دولية، واتفاقات تجارية، وتحالفات عسكرية مراهنين على أنهم سيكونون أقوى معًا، وكانوا على حق في معظم سنوات باقي القرن العشرين، حيث نعم، الجانب الغربي مرّ بفترة سلام طويلة نسبيًا، كما أن امتلاك أسلحة الدمار وضع حدًا للصراع بين تلك القوى، إلا أن بداية القرن الحادي والعشرين تشهد تراجعًا وعودة إلى المصالح الضيقة والقومية السلبية. أحد أسباب ذلك التراجع أن تركة ما بعد الاستعمار في العالم الثالث أهملت القواعد التي تعلمها الغرب، أو استفادوا منها، وتُركت الدول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في معظم الأوقات ساحة تناحر، بين حروب أهلية وحروب بينية، خلفت الكثير من الجروح والآلام لدى هذه الشعوب وما زالت تفعل.
ومع التغير الذي يحصل في الغرب اليوم من ترجيح المصالح الخاصة والأنانية للشعوب الغربية على أولوية الحفاظ على السلم العالمي، وفشل ذريع في إقامة الدولة الوطنية المدنية العادلة في معظم دول العالم الثالث، تتفاقم الحروب الأهلية في فضائنا في العالم الثالث، وفي الفضاء العربي، مع ميل واضح لينقض الغرب قواعد اللعبة الدولية، فالانعزالية والقومية الضيقة وأولوية الصراع الدولي قبل التعاون تسود اليوم. وبسبب امتلاك الأسلحة الفتاكة، فإن الصراع يتحول من دولي إلى إقليمي، ويجعل من منطقتنا مكان اختبار، وساحة صراع، ومقرًا لعدم الاستقرار، والتنافس الحاد على الموارد وعلى السُلط، خلف جروحًا إنسانية عميقة ما زالت تنزف. فقواعد اللعبة الدولية تتغير بعمق، ومع تسلم الإدارة الأميركية الجديدة مؤخرًا، سوف ترسم حدود «اللعبة» بشكل أوضح.
المعادلة المتوقعة هي كالتالي: سلام هش ومنضبط جزئيًا بين الكبار، وإطلاق متوحش للصراع في الأقاليم؛ أوروبا الشرقية واحد منها، والشرق الأوسط هو المكان الآخر.
إذا كان الحديث عن هول المأساة السورية الإنسانية عظيمًا ومدمرًا، فإن الخبراء في ندوة الكويت أجمعوا على أن سوريا الدولة خسرت في ست سنوات من الصراع، ما كسبته خلال الثلاثين عامًا المنصرمة، أي أن سوريا التنموية في عام 2017، هي أقل من سوريا التنموية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من الناحية الاقتصادية والتعليمية والإنسانية، وإن أضفنا إلى ذلك ما سوف يواجه الجيل السوري في المنافي والمخيمات من تراجع، تبرز لنا حقيقة من تراكم الجهل والتعصب وفقد النمو، مما يحتاج إلى سنوات طوال لتعويضه. الخبراء سلموا بأن العراق اليوم خسر نصف قرن من النمو، فهو ليس أفضل من عراق 1950، من حيث التعليم والبنية التحتية والمستوى المعيشي والثقافي. في كلا البلدين القصة لم تنتهِ، ولا مجال لتوقع نهايتها في المدى المنظور. في اليمن الذي أصلاً قد حُرِم من التنمية لسنوات طويلة تراجع الوضع الإنساني سنوات طوالاً، وأصبح الطفل اليمني بدلاً من حمل الكتب يحمل السلاح من خلال قيادات لا همّ لها إلا جمع المال والتضحية بأرواح البشر في سبيل الحفاظ على سلطة هي هشة في الأساس.
في مرحلة ليست بعيدة، سوف يتخلى النظام الدولي عن مسؤولياته كما حددها نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى نظام اتقائي بين قوى كبرى صناعية، وترك اللانظام يعبث في منطقتنا، بل إن التضييق سوف يطال حتى العمل الخيري والإغاثي، فهو اليوم إن مر من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، ذهبت نسبة كبيرة منه يقدرها الخبراء بأنها لا تقل عن أربعين في المائة للبيروقراطية والعمل الإداري، وإن مر من خلال المؤسسات الوطنية تنهشته إشاعة العلاقة بالمنظمات الإرهابية وشبهة الإرهابية تضييقًا على العمل الإغاثي، كما تعاني من التقليدية وقلة الابتكار.
هول المشكلة التي تواجهنا عظيم، وتحتاج إلى تصور مُبتكر، وتكاتف عربي إقليمي فعال. ومن الأفكار التي طرحت في الندوة إنشاء بنك الإعمار، وأخرى حول ابتكار طرق للتعليم مختلفة عن الطرق الكلاسيكية الممارَسة، من أجل تعليم شامل لأبناء المهجرين واللاجئين، حتى لا نفقد جُل هذا الجيل ويُزَج به في بحر من الجهل والتهميش الذي يُهيئه لقمة سائغة للتطرف، ومنها تفعيل المنظمات العربية الإقليمية.. كل ذلك يحتاج إلى استراتيجية عربية إقليمية. ندوة الكويت كانت اللبنة الأولى، إنما تحتاج إلى مبادرة القيادات والمؤسسات لتفادي الأسوأ، الذي هو لا شك آت إن تقاعسنا!!
آخر الكلام:
تأثير الصراعات الصاعق على الأجيال القادمة في مناطق الصراعات العربية سوف يخلق جيلاً متوحشًا لم يعرفه عالمنا من قبل، ولم تبذل مؤسساتنا حتى الساعة الجهد العلمي لمواجهة الموجة المقبلة من فاقدي الأمل.
التعليقات