فهد الأحمري

مهما تكن عقيدة ابن سينا وابن رشد والفارابي، فهم مفخرة حقيقية للبشرية، لما قدموه من علوم أضاءت عصور الظلام، وتحقق نفعها للبلاد والعباد، من زمنهم لزمننا هذا وما يليه من الأزمنة

كان يُعرف باسم الشيخ الرئيس، وسمي في الغرب أمير الأطباء. تجاوزت مؤلفاته 200 كتاب في مواضيع شتّى، أغلبها تتحدث عن الفلسفة والطب. هو رائد الطب وأول من كتب عنه في العالم. وأشهر أعماله كتاب القانون في الطب الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، واستمر هذا الكتاب العمدة في تعليم هذا الفن حتى أواسط القرن السابع عشر في الجامعات الأوروبية. يعتبر أوّل من استطاع وصف التهاب السَّحايا وصفا دقيقا، وهو الذي وصف أسباب اليرقان والمسمى أبو «صفار»، وأوَّل المتحدثين عن فساد الهواء الناقل للأمراض؛ في إشارة منه إلى وجود الأمراض التي تنتقل بالهواء (والتي تعرف حاليا بالجراثيم)، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء. وصنف موسوعته العلمية الضخمة «كتاب الشفاء».
هذا هو ابن سينا، أبو الطب كما يُصنف في الغرب، صاحب الفضل الكبير على سكان المعمورة قاطبة إلى أن يبعثوا ثم يأتي شخص متزمت لا يقدر لأهل العلم فضلاً ولا قدرا، قادحا في شخص هذا الجهبذ العظيم وأمثاله بسبب رأيه المتصلب في عقيدة الرجل وديانته ومذهبه وأصوله، ويبحث في السلبيات ما أمكن -إن صحت- ليقضي على كل إبداع ومنجز جراء نزعة طائفية مقيتة. 
إشكاليتنا المزمنة تتمثل في فوبيا المذهبية والتصنيفات العنصرية والفكرية السقيمة رغم القواسم المشتركة الكبرى العديدة والكفيلة بتجاوز ما دونها.
كان ابتلاء معاشر العرب منذ القدم الشعور بالفوقية على من دونهم، مثلهم مثل غيرهم من الشعوب، حتى جاء الخطاب المتشدد ليضيف بُعداً مضافا لهذه النظرة الفوقية المصطفاة من بين البشر، مما أدى لتعبئة ثقافية مغالطة -لجوهر الدين- تسلط النظر دوما وأبدا لأصول الشخص العرقية، فإن كان في العرق سواء نظر لديانته، فإن كان في الديانة سواء نظر لمذهبه، فإن كان في المذهب سواء نظر لهيئته وسمته وتوجهه الأصولي أو الليبرالي، وهكذا إلى أن يسقط الشخص في مختبرات التصنيف، متجاهلين علم الرجل وقدراته ومساهماته لخدمة مجتمعه الصغير أو المجتمع الكبير -العالمي-، والتي قد يعد بعض تلك المساهمات أهم من ملء الأرض من أولئك الجهلة الظلاميين.
لقد رأينا الكثير منهم حين يلُمّ بأحدهم المرض أو بأحد أفراد أسرته يُسارع للأطباء من الذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم باليوم الآخر ومن كفر ومن يعبد البقر، في ألمانيا وأميركا والهند طلبا للعلاج، وفي هذا الموقف -فقط- تجده يستحضر الآية الكريمة «لكم دينكم ولي دين». وحين يستنشق جسده نعيم الصحة وتسري في عروقه العافية، يعود لخطابه المتصلب المناهض للإنسانية جمعاء، بمن فيهم اليهودي الذي عالجه في مشفى مايو كلينك النيويوركي، والطبيب الملحد في الشاريتيه الفرانكفورتي، والبوذي في لندن كلينك، والنصراني في تخصصي الرياض، والاستشاري الشيعي في الدمام، ولا يبخل في بث رسائل «البرودكاست» المثقلة بالسباب والشتائم والتقريع لرفات المبدعين الأموات، كابن سينا والرازي وابن رشد والفارابي وابن الهيثم، ثم إذا هو يرفع يديه دعاء وابتهالا على الأحياء العصاة بمرض السرطان وصنوف الويلات والنكبات ليلحقوا «بإخوانهم» الأموات، باعتبار أنه هو وشاكلته المصطفون الأخيار المنزهون من المعاصي ما ظهر منها وما بطن. 
مهما تكن عقيدة ابن سينا وابن رشد والفارابي، فهم مفخرة حقيقية للبشرية لما قدموه من علوم أضاءت عصور الظلام، وتحقق نفعها للبلاد والعباد، من زمنهم لزمننا هذا وما يليه من الأزمنة. أما ما يخص أمرهم العقدي فهو أمر عائد بينهم وبين ربهم، وقد مضوا إلى بارئهم وهو سبحانه الحكيم العادل الرحيم بنا وبهم، ولا نعلم ما خفي علينا بينهم وبين خالقهم تعالى. الذي علينا هو، أن نفخر بهم ونبرزهم كعلماء أسهموا في حضارة الدنيا، وهم بالنسبة لنا، خير مستقرا وأحسن مقيلا ممن أساؤوا للإسلام باسم الإسلام.
أما صديقنا هذا والذي يرى نفسه صاحب الفضل والفضيلة على البشرية، فعليه التأكد من تناول حبة الدواء قبيل النوم من أبي الطب ابن سينا، ولا مانع من الاطلاع على حكم وفلسفة شيخه العظيم الفارابي حتى ينعم بالنوم الهادئ. على أمل أن يستيقظ ليتعرف على طبيعة خلق الله ومادة الكون الفسيح لابن حيان كي يزداد إيمانا. وحين يرغب بالمزيد فله أن يقرأ عن حركة المادة من حوله كالجاذبية والضوء، فضلا عن حركة دماغه لرائد هذا العلم ابن الهيثم، وغيرهم الكثير والكثير دون أن تهتم بمذهب أو دين أحد منهم، فهذا شأنهم غير المتعدي، والذي يعنينا هو علمهم المتعدي نفعه لعموم الأنام.