محمد الرميحي

 هزتان كبيرتان ضربتا المنطقة منذ أكثر من ربع قرن، وشكلتا ردود فعل وتداعيات عميقة، وتركتا من الأحداث الجسام ما لا نزال نتعامل مع نتائجه، وبعضها كارثي، تلكما الهزتان تداعى لهما العالم والإقليم ودول الخليج، والأخيرة هي موضوع النقاش هنا.

الهزة الأولى هي احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر (كانون الأول) 1979، وبقاؤه هناك عشر سنوات، شهدت صراعاً محتدماً وتدخلات شتى وإفرازات سلبية كبرى، انتهت بسقوط كيان الاتحاد السوفياتي كلياً وخروجه من التاريخ، وأيضاً بظهور قوى ذات حزمة سلبية عميقة من الكراهية للحداثة. والهزة الثانية (الثورة الإسلامية الإيرانية) في يناير (كانون الثاني) 1978، التي تركت - ولا تزال - ارتدادات شكلت شهية التوسع الإيراني بؤرتها، هذا مع عدم تجاهل الإرهاصات التي سبقت الاحتلال وسبقت الثورة.

الحدثان الضخمان استدعيا ردات فعل مختلفة وعميقة، وقد أثرت الاستجابات، المخطط لها أو العشوائية، في العالم المحيط، ورسمت معالم طريق الأزمات الطويل الذي نعيش. الاثنتان استدعيتا ردات فعل من دول الخليج، إما منفردة أو بالتعاون مع قوى أخرى، وتناسلت الأحدث حتى أدت إلى ما عرف اليوم بـ(غزوة منهاتن)، وتقويض النظام في العراق، وظهور (داعش)، وسلسلة طويلة من الأحدث. المهم في الأمر أن دول الخليج واجهت تكنيك الهزتين الكبيرتين بما يمكن أن يعرف بـ(مواجهتهما بالترياق نفسه)، أي الركون إلى الآيديولوجية الدينية لاستثارة القوى المضادة لممارسات الاحتلال من جهة، وطموحات الثورة والتوسع الإيراني من جهة أخرى، وقد كانت تلك الاستراتيجية مبنية على ردات فعل دون تصور لـ(استراتيجية خروج آمن)؛ بعد فترة من الزمن تبينت النتائج السلبية لتلك الاستراتيجية، فقد قويت حركة (الإسلام الحركي) لتترك تأثيراً باتجاهين: الأول معاداة تدريجية للأنظمة التي ظهرت منها، مع ميل بعضها للتعاون - بل والتحالف - مع (ثورة الملالي)؛ والثاني إفراز الحركات العنفية التي اعتمدت أشكالاً مختلفة من العنف، وتوالدت تنظيماتها في ربع القرن الماضي، وأسست ما شاهدناه من عنف مريع.
صاحب ذلك توسع للآيديولوجية (الإيرانية / الانقلابية) تحت مجموعة من الشعارات، واستخدام تلك الآيديولوجيا مصحوبة بالمال والرصاص لإرغام أو تطويع مجموعات عربية للانخراط في مشروعها التوسعي. هذا المشهد الذي ساد في السنوات الأخيرة، ظهر اليوم من يتحداه، فمجموعة الإصلاحات التي تقوم بها دول الخليج تنم عن خطوات تتخذ ببصيرة للانفكاك من استراتيجية (مقابلة التحدي بمثل أدواته) إلى استراتيجية (بناء نموذج مختلف) عصري ومتسق مع صحيح التفكير الإنساني، كان من المفروض أن يفكر في هذا النموذج البديل، الذي هو أفضل ما يواجه تلك الهجمات الضروس، منذ زمن، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، كما يقول المثل العربي.
تباشير بناء النموذج المختلف والعصري يتيح لبلدان الخليج ميزة نسبية ومتفوقة بالضرورة على (نموذج الملالي) الذي يبحر في ثيوقراطية عمياء، وإكراهات عُنفية، تقود الشعوب الإيرانية ذات التاريخ الحضاري إلى الهاوية، كما يقدم النموذج الذي نرى تباشير بنائه أمل الخلاص، لا للشعوب العربية وحدها بل وأيضاً للشعوب الإيرانية، حيث يتيح مقارنة على الأرض بين نموذج الملالي الذي ليس له مستقبل، ويحمل بذور فنائه من داخله، فهو نموذج قمعي تتلاشى فيه أبسط الحريات، ويعتمد على مقولات لها علاقة بالماضي، مبنية على أساطير وتأليه البشر ومعصومية القائد، وبين نموذج عصري.
النموذج الجديد الذي يبني عربياً له إرهاصاته المشاهدة التي تأتي تباعاً، منها - على سبيل المثال لا الحصر - السماح للمرأة في المملكة العربية السعودية بقيادة السيارة؛ لقد كان ذلك في السابق موضعاً للإحراج، وسبيلاً إلى الانتقاد، ومنها محاربة الفساد، ومنها أيضاً السماح للنساء بحضور المسابقات الرياضية (التي ما زالت المرأة الإيرانية محرومة منها)، ومنها ما حدث في الكويت بشكل سلس من إنهاء عمل (لجنة استكمال تطبيق الشريعة الإسلامية)، ومنها تقليص دور مؤسسات كانت خانقة للمجتمع. من هنا، فإن من يتمنى البقاء في مكان أضعف لمجتمعاتنا، نراه ينتقد الإصلاحات على أنها سريعة الإيقاع، على أخف ما يصفه المعارضون لها، من أجل الاستمرار في المكان الأضعف.
بناء النموذج الجديد الذي ترتسم معالمه أمامنا اليوم يحتاج إلى قاعدة اقتصادية قوية، وهذا ما يتم العمل به في عدد من دول الخليج، على رأسها المملكة العربية السعودية التي تبنت برنامجاً اقتصادياً وصناعياً طموحاً، فذلك هو الطريق ليكتمل النموذج، ويصبح مكاناً للافتخار من جهة، وتشكيل الخيار الآخر المأمول من جهة أخرى لكل الإقليم، إذ إن أول ما يتوجب التفكير فيه فصل ما يعرف بـ(العادات والتقاليد) عن (جوهر الإسلام)؛ لقد بني النموذج الذي تصدى في البداية للهزتين الكبيرتين على نموذج (خلط واضح بين العادات والتقاليد وجوهر الإسلام)، والعمل هنا واجب التركيز للفصل الواضح والعلمي بين الاثنين، كما الفصل بين جوهر الإسلام والعمل السياسي. والطريق إلى ذلك ليس سهلاً، ولكنه واجب السير فيه لبناء النموذج الجديد بنجاح.
ومن جوهر البحث في مواصفات النموذج الجديد اكتشاف مصادر القوة والتميز في الفضاء الخليجي، وهو رأس المال البشري، فقد تم في السنوات الأخيرة تراكم كبير في رأس المال ذلك، نتيجة توسع التعليم وانتشار المعرفة والتعامل مع الثقافات الأخرى، فأصبح لدينا جيل شاب من نساء ورجال يمكن الاعتماد عليهم في بناء النموذج الجديد، ومشاركتهم الفعالة في وضع مواصفاته المرجوة، مع أهمية قصوى لاستمرار تجويد التعليم والتدريب الدائم، في جلبة ثورة اقتصادات المعرفة، المفتاح السحري للنهوض والاستدامة المجرب في كل الثقافات الناهضة في عصرنا، فالأفكار التي تتكون في أذهان الناس هي التي تقودهم أما إلى الصلاح أو الخراب.
بقي مجال أخير يكتمل به النموذج الجديد، وهو التفكير الجاد في توسيع المشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه، والمشاركة لها طرق كثيرة ومختلفة، وتجارب العالم مليئة بالنماذج، إلا أنه في صلبها يكمن مشاركة النخب في اتخاذ القرار، ومن خلال مؤسسات معروفة وفي أزمان محدودة. ما سهل للتطرف الطريق إلى العقول، وما جعل الشعوب تضيق بما هي فيه، ويتعاظم سخطها، عزلها عن المشاركة في اتخاذ القرارات الخاصة بها بالطرق الحديثة والمجربة؛ ذلك ما سهل لها الانزلاق والسقوط في أيدي متطرفين؛ إغراء بشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كما حدث تماماً للشعوب الإيرانية في العقود التي سبقت الثمانينات من القرن الماضي؛ أرادت أن تكون فاعلة فلجمت، لكنها تتوق إلى التحرر.
ومن صفات النموذج الجديد أنه يغادر منطقة التردد إلى منطقة الأمل المفعم بالمبادرات، ويواجه متطلبات الحداثة بشجاعة وقلب جسور، أقلق حتى الأصدقاء الذين لم يتعودوا بعد على اقتحام المستقبل بأدواته العصرية، ولكنه النموذج الذي يقلق النموذج الإيراني النكوصي، كما يقلق حلفاءه، لذلك تجدهم يتراكضون في كل مكان جراء خطوات لم يتوقعوها، وقرارات لم يألفوها، فيفتح على المشروع البديل كل سائبة في الإعلام والسياسية لأنه الطريق إلى التنمية الحديثة من جهة، وخلق نموذج يسحب البساط من تحت أقدام (نموذج الملالي) وأتباعهم.
آخر الكلام:
(حزب الله) و(داعش) والحوثي وجوه لعملة عقائدية واحدة، ومشروعهم نكوصي؛ يتفقون على تخريب الأوطان، بمساعدة فعالة من دولة الملالي!