خليل علي حيدر 

اعتدنا أن نطالع المؤلفات العربية عن قضايا الهجرة إلى أوروبا ومشاكل العرب والمسلمين في المهاجر هناك، ولا يتفهم الكثير منا ردود الفعل الغربية إلا من زاوية اتهام الأوروبيين بكُره الأجانب أو «الإسلاموفوبيا»، وهذا ما يجعل الكتاب الذي أعده البريطاني «بول كوليير» خدمة جليلة في دراسة هذه الظاهرة، وردود فعل المجتمعات ومتى ينجح المهاجرون ولماذا يخفقون، وذلك في كتابه المنشور في الكويت عام 2016 ضمن سلسلة عالم المعرفة بعنوان: «الهجرة: كيف تؤثر في عالمنا»، ورغم أن كتاب «كوليير» صدر حديثاً - عام 2013- أي بعد كل الحملات الإعلامية والسياسية ضد المهاجرين، وبعد كل ما قام به ولا يزال بعض المسلمين في تدمير سمعتهم هناك، فإن المؤلف يدرس الظاهرة بحرص وروح علمية، متوقعاً أن تكون لهذه الهجرات تأثير إيجابي في مجتمعات الغرب! والقاعدة المدهشة التي ينطلق منها الباحث تزخر بالتسامح والإنسانية، وهو يبحث بخاصة ما يسميه تأثير الهجرات على السكان الأصليين في البلدان المضيفة، وهي موضوعية وإنسانية لا نجدها حتى في البحوث العربية والإسلامية حول هذا الموضوع، حيث يؤكد «كوليير»، بصراحة أن كل السكان الأصليين في الغرب «ينتمون إلى أنساب هجينة في الأصل نتاج موجات هجرة سابقة، ولأن بريطانيا جزيرة، فمن الواضح أن جميع السكان الأصليين هم بشكل أو بآخر من إسلاف المهاجرين».

ويفاجئ الباحث القارئ بموقف أكثر إنسانية وطرافة فيقول: «المسألة هنا هي ما إذا كان تحدر السكان الأصليين أنفسهم من المهاجرين الذين جاؤوا إلى هذه البلاد في فترة سحيقة من الماضي يلغي الحق في تقييد الهجرة، وإن أولئك الذين حالفهم الحظ لأن يرتقوا سلماً ينبغي إلا يسحبوه معهم بعد الصعود»، ويضيف متحدثاً عن بريطانيا: «لم يكن المستوطنون الأوائل يصعدون سلماً - وهم يدخلون بريطانيا مهاجرين - لذا فأسلافهم لا يمكن أن يكونوا قد سحبوا السلم معهم». ويتساءل: ما تأثير الهجرة على السكان الأصليين؟ لحسن الحظ، يضيف، تتوافر بحوث كثيرة حول الموضوع.

كيف يتفاعل المهاجرون مع الأرض والشعب، والوطن الذي هاجروا إليه إن العنصر المهم «الثقة والتعاون» بين الطرفين، لأن هذين العنصرين الثقة والتعاون لا يظهران على نحو طبيعي، كما أنهما ليسا من الخصائص الغريزية للإنسان الذي قهرته الحضارة. هناك دراستان جديدتان رائعتان تتناولان الحالة في أفريقيا يتضح من خلالهما كيف أن الافتقار إلى الثقة من المشكلات الدائمة، ويشير الباحث إلى عبء التجربة التاريخية في الحياة الأفريقية التي حطمت الثقة الاجتماعية بين الأفارقة! فقد سجل المؤرخون «أكثر من ثمانين نزاعاً عرقياً عنيفاً حدثت قبل العام 1600». وتقول الدراسة إن أعمال العنف التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأربعمائة الماضية قد استمرت آثارها حتى اليوم ولا تزال تؤدي إلى اضطرابات دائمة وأعمال الثأر.

ولا تنتهي أعمال الثأر والانتقام إلا إذا تخلى المجتمع عن مفهوم الشرف الأخلاقي. من الأمثلة الكلاسيكية لهذا التحول انتهاء تقليد المبارزة في أوروبا الغربية خلال القرن التاسع عشر. لقد انتهى ذلك التقليد بعد ثورة ثقافية شاملة جعلته يبدو سخيفاً. ويضيف الباحث في مجال دراسته لجذور ثقافة المهاجرين الأفارقة إلى بريطانيا وأوروبا، فيشير إلى الدراسة الجديدة الثانية، وتدور حول تجارة العبيد وما تركت في المجتمعات الأفريقية من آثار. ويورد نموذجاً محزناً مخيفاً فيقول: «في الوقت الذي تقود فيه الصراعات إلى تدهور الثقة بين الجماعات، كانت تجارة العبيد تدمر أواصر الثقة داخل تلك الجماعات، وفي كثير من الأحيان كان الناس يضطرون إلى بيع أفراد من عائلاتهم إلى تجار العبيد». ويقول إن النيجيريين يمتازون بشيء من التطرف العميق في أن أحدهم لا يثق بالآخر، بل «ليس من الممكن للنيجيريين الحصول على وثيقة تأمين على الحياة، وذلك لأن أي شخص يستطيع شراء شهادة وفاة بسهولة من دون أن يتكبد عناء الموت»! فانظر كمّ الفساد ومدى التلاعب بالسجلات.

ويحاول الباحث أن يفسر عدم إطاعة المهاجرين في أوروبا للقوانين ويضيف: «في البلدان التي يكون فيها حكم القانون ضعيفاً، يمتاز الناس بالانتهازية ولا يثق بعضهم ببعض».

لا يدخل المهاجرون أوروبا برأس المال البشري، وإنما أيضاً بقواعد أخلاقية مجلوبة من مجتمعاتهم، ففي دراسة لقضية دفع غرامات وقوف سيارات الدبلوماسيين في نيويورك في الأماكن الممنوعة بيّنت دراسة «لإدوارد ميغن»، أن سلوك الدبلوماسيين الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة كان متبايناً إلى حد كبير، الديبلوماسيون يأتون ومعهم ثقافتهم الخاصة بمجتمعهم.

ما تأثير موقف المهاجر وتأثيره في ثقافة أبنائه؟

يقول «كوليير» إن البلدان تختلف من حيث نجاحها في تمكين المهاجرين وأطفالهم من اتباع معايير المجتمع الجديد. ويضيف: «من بين أكثر البلدان نجاحاً في هذا الشأن أميركا. الأطفال الذين يولدون ويكبرون في أميركا يستوعبون القيم الأميركية، وهذا شيء بعيد عن التطبيق الحقيقي في أوروبا، في الواقع هناك الآن دلائل متزايدة على أن العكس هو الذي يحصل في أوروبا: «أطفال المهاجرين يكونون أكثر رفضاً لتقبل ثقافة المهجر من آبائهم».