حمزة السالم

 هاتفيلد وماكوي، أُسرتان كبيرتان تتجاوران حدود ولاية كنتاكي وولاية غرب فرجينيا. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، حدث خلاف تافه بين فردين منهما حول خنزير صغير. فامتد حتى جر العائلتين الكبيرتين لصراع دموي استمر لسنوات، حُرقت فيه المنازل، وقُتل النساء والأطفال ودارت معارك بالبنادق والمتفجرات، كمعركة «قريب فين».

وبامتداد النزاع لسنوات، تطور العنف حتى ألجأ أفراد العائلتين الجبال خوفاً من بعضهما. ورغم ذلك، لم تتدخل الجهات الرسمية لفض النزاع بالقوة. فلم تزد حكومتا الولايتين عن إصدار القرارات التي تؤيد حق كل عائلة بأخذ حقها. أما الحكومة الفدرالية في واشنطن فقد كانت أكثر تخاذلاً، بعد لجوء كلا الطرفين لها. فقد أصدرت المحكمة العليا قرارات تنقض بعضها. فمثلاً، لا يجوز القبض على أفراد ولاية خارج ولايتهم ثم محاكمتهم في ولاية أخرى. وتصدر كذلك، ولكن متى تم القبض عليهم خارج ولايتهم فإنه يجوز محاكمتهم خارج ولايتهم. فاستمر الحال على وضعه. فيخطفون الرجل من بيته في غرب فيرجينيا ويسوقونه لكنتاكي ثم يقبضون عليه في كنتاكي. فكلا العائلتين قد سفك دم العائلة الأخرى وحرق منازلها، وكلاهما يطالب بالعدالة والقانون.

وتصرفات الجهات الرسمية المتناقضة والتخاذل عن التدخل بالقوة لحسم النزاع وفضه، ليس بالأمر الغامض. فلو تدخلت حكومة إحدى الولايتين أو مالت الحكومة الفدرالية في واشنطن لأي عائلة، لتعاطف سكان كنتاكي لعائلة ماكوي وتعاطف سكان غرب فيرجينيا لعائلة هاتفيلد، ثم لانتقل النزاع بين أسرتين إلى حرب بين الولايتين ثم لامتد للولايات المجاورة حتى تندلع الحرب الأهلية من جديد. ولو لم تصدر هذه الأوامر الرسمية المتناقضة من الجهات الرسمية، لضاعت هيبة الدولة. ولكنها شماعة للحكيم ومتنفس للمتوجس.

تاريخ هاتفيلد وماكوي، يحكي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فلم ترد الجهات الرسمية أن يستمر النزاع بين العائلتين، ولكنها لم تتهور في تدخل قد يؤدي لنزاع أوسع. فما دام أن كلاً من العائلتين قد ركبت رأسها، فالزمان كفيل بأن تحطم كل عائلة رأس الأخرى حتى يذعن كل منهما للتصالح وحسن التجاور.

ومن سبر التاريخ الأمريكي، استطاع التنبؤ بالسياسة الأمريكية، طالما أحسن القياس ولم يغفل عن المتغيرات. فسياسة شارمان لإنهاء الحرب الأهلية المتمثلة بمقولته « العنف لا ينتهي إلا بالعنف»، فقام فحرق الولايات الجنوبية ونهبها وقتل أهلها حتى أذعن الجنوب، سياسة تكررت في إلقاء القنبلة النووية على اليابان وإنهاء الحرب.

وانسحاب جيش الشمال من الجنوب، متخلياً بذلك عن حمايته للعبيد المحررين، وليواجهوا مصيراً مروعاً من أهالي الجنوب، وذلك من أجل إنقاذ الانتخابات وتجنب نشوب حرب أهلية أخرى ، هو نفس خيار السياسة الأمريكية التي ضحت بأوربا الشرقية للروس، مقابل إبعاد الروس عن اليابان. وقتل ستون مليون جاموس لمحاصرة الهنود الحمر جوعاً حتى أذعنوا، سياسة أمريكية تكررت كثيراً بعد ذلك.

ردة الفعل عند العقلاء، في حال الخلاف والنزاع معهم، أمر يسهل على الحكيم التنبؤ به. وزبدة الكلام قولهم «وكل شجاعة في المرء تغني... ولا مثل الشجاعة في الحكيم»