إياد أبو شقرا

 أزعم أنه ليس شرطاً لمن يمارس العمل السياسي أن يحمل درجات عليا في التاريخ، فبعض ألمع ساسة العالم لم يتخصّصوا أكاديمياً لا في التاريخ ولا في السياسة.


كثيرون تخرّجوا في معاهد القانون ودخلوا السياسة من باب التشريع. وآخرون جاؤوا من الأكاديميات العسكرية مثل شارل ديغول وونستون تشرشل. ومنهم من زاول الطب أو الهندسة قبل اقتحام حصون الحكم أو اختيار دروب الثورة. من الفئة الثالثة نجد «الأطباء» إرنستو (تشي) غيفارا ومحضير (مهاتير) محمد وميشيل باشيليت، و«المهندسين» هربرت هوفر ونجم الدين أربكان... وطبعاً جبران باسيل وزير خارجية لبنان.
هنا أود القول إنه ليس ثمة مشكلة مع إلقاء محاضرات في التاريخ، لكن ثمة مشكلة حقيقية في تشويهه وتفسيره على هوانا. وبالمناسبة، خلال الأسبوع المنصرم، نظّمت وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن «مؤتمر مكافحة (داعش)» بحضور ممثلين عن 68 دولة تشكّل «التحالف الدولي» للحرب ضد التنظيم الإرهابي المتطرف، وكان بين الحضور وزير الخارجية اللبناني. ومع أنني لم أطلع على إسهامات الوزير داخل قاعة هذا المؤتمر، فلقد أتيح لي أن أقرأ عن الندوة التي عقدها في «معهد وودرو ويلسون» بالعاصمة الأميركية على هامش مشاركته في المؤتمر.
الوزير باسيل قال في الندوة، حسب ما قرأت، إن «(داعش) عقيدة موجودة منذ وقت طويل، وبسببها هاجر ثلث اللبنانيين إلى بلاد الاغتراب في الولايات المتحدة وحول العالم، وقضى الثلث الثاني تحت حصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. أما الثلث الأخير من اللبنانيين، فهم الذين بقوا في لبنان وما زالوا يحاربون (داعش) حتى اليوم...».
اللافت في هذا الكلام أنه يخالف عدداً من الحقائق التاريخية البسيطة، مع أنه يشكل في عصر الراديكاليات والتطرّف الديني والمذهبي والعنصري مادة تحريضية جذّابة ضد «الخصوم السياسيين» لِما يمثله الوزير... وأيضاً لا يخدم انسجام «حكومة الوحدة الوطنية» اللبنانية كي لا نقول روح «الوفاق الوطني» في الظروف المحلية والإقليمية - بل حتى الدولية - المعقدة.
بداية، القول إن «داعش» «عقيدة موجودة منذ وقت طويل» جاء في سياق سرد تاريخي يوحي بأن هذا الوقت سابق للحرب العالمية الأولى. أي أنه سابق لوجود كيان اسمه لبنان الذي أسّس (بحدوده الحالية) بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1920.
وتالياً، هناك تلميح واضح إلى الدولة العثمانية، التي كان مذهبها الديني الإسلام السنّي الحَنَفي، والتي ما كان لها علاقة البتة بالتكفير الداعشي الذي ترفضه كل الدول الإسلامية. أكثر من هذا شهدت الدولة العثمانية، التي عاش المشرق العربي تحت لوائها بين عامي 1516 و1918، خلال الفترة بين عامي 1839 و1876 «عهد الإصلاحات» والعصرنة والحكم الدستوري. وشكّلت هذه الحقبة فترة تسامح وانفتاح كبيرين. وحتى عندما فرضت الضغوط الخارجية والنكسات العسكرية المتتالية في أوروبا على السلطان عبد الحميد الثاني اعتماد سياسات محافظة، فإنه جوبه بمعارضة التيار «الإصلاحي» منذ عام 1908. ولاحقاً، كان القادة الذين أزاحوا السلطان، أي «الثلاثي» طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا، أبعد الناس عن التزمّت الديني... و«الداعشية».
أمرٌ آخر أقرب إلى الفولكلور منه إلى التاريخ، هو تطرّق الوزير باسيل إلى الهجرة اللبنانية منذ العهد العثماني، لا سيما، أنه أغفل في المقابل - وما زال يغفل - الأسباب الفعلية للهجرة المتسارعة منذ نهاية الحرب اللبنانية (1975 - 1990). تفسير هذا هو موقفه الملتبس من «حزب الله»؛ إذ قال إن لبنان «يدفع ثمناً باهظاً لما يجري في سوريا، بما في ذلك تدخّل (حزب الله) في الحرب الدائرة هناك. وبعد ذلك قال إنه لا يتحدث باسم الحزب، ويمكن توجيه الأسئلة للحزب حول تدخله في سوريا أو أي من دول المنطقة».
والمثير طبعاً أن «حزب الله»، الذي تعتبره الولايات المتحدة - حيث كان يتكلم الوزير - منظمة «إرهابية»، حليف لتياره السياسي، وهو الذي أوصل رئيس التيار لمنصب رئاسة الجمهورية. بل إن رئيس الجمهورية، الذي هو أيضاً حمو الوزير، دافع ولا يزال عن تدخل الحزب في القتال في سوريا، وهو يبرّر حتى اليوم احتفاظه بسلاحه بذريعة الحرب في سوريا... مع أن كل الأطراف اللبنانية نزعت سلاحها بعد 1990. ومن ثم، فإن كلام الوزير عن أن «السياسة الرسمية اللبنانية، وفق البيان الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية القائمة حالياً، تقضي بوقوف لبنان بعيداً عن كل صراعات المنطقة» لا يعني شيئاً من الناحية العملية.
أيضاً كان لافتاً انتقاد الوزير باسيل عجز العدالة الدولية عن التحرك في وجه «داعش»، مع العلم أن لتياره أصلاً موقفاً سلبياً إزاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي شكلت بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه عام 2005. والمعروف أن هذه المحكمة اتهمت خمسة من أفراد «حزب الله» بالتورط في اغتيال الحريري ورفاقه. غير أن الحزب رفض التعاون معها حتى اليوم. وفي المقابل، صدر كلام من قيادات في تيار الوزير باسيل تشكو من النفقات التي «يتكبّدها» لبنان من أكلاف المحكمة!
وأخيراً لا آخراً، دعا الوزير اللاجئين السوريين في لبنان للعودة إلى المناطق السورية التي انحسر عنها القتال أو إلى شمال غربي سوريا (حيث مناطق الكثافة العلوية). وهذا الموقف السلبي من اللجوء السوري ليس جديداً، بل إنه تجديد للموقف السلبي القديم من اللجوء الفلسطيني؛ إذ بينما يقضي الواجب الوطني والقومي والإنساني رفض التهجير بالمطلق، دأب بعض اللبنانيين في الماضي على التشكّي من اللجوء الفلسطيني أكثر من إدانتهم القوة التي شرّدتهم وهجّرتهم بعيداً عن ديارهم. واليوم يتكرّر الموقف نفسه، وها هو تيار الوزير لا يريد السوريين في لبنان، لكنه لا ينتقد ولا يحاسب مَن كان وراء تشريدهم وتهجيرهم.
هنا لب الأزمة المؤلمة التي منعت تحوّل لبنان من «صفقة» دولية إلى وطن حقيقي. ولذا فالفهم، بل التفسير، المغلوط عمداً لتاريخ المنطقة وأهلها سيبقي لبنان ورقة في مهب ريح المصالح والفتن.. . .