صالح زياد
لم يكن الإسلام، فيما يتمثله المسلمون، كتلة واحدة، متجهة إلى رفض الغرب ومعاداته، أو لمعاداة ما هو محسوب على الغرب ومتصل به من أطراف الثنائيات المصنَّفة في مضادة الذات الإسلامية ومتعلقاتها
هناك دلالات للقمم الثلاث، السعودية والخليجية والإسلامية، التي تنعقد في الرياض بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولكن القمة الإسلامية التي تنعقد، اليوم الأحد، بينه وبين زعماء وممثلي الدول الإسلامية، تأخذ رمزية أعمق وأشمل، رمزية التقابل التاريخي الحضاري والثقافي الذي صنعته ثنائية «الإسلام والغرب» وأميركا قطب الغرب الأكبر ونموذجه الأسطع.
إن طرفي الثنائية يجتمعان في قمّةٍ موضوعُها التحالف ضد الإرهاب ومكافحة التطرف. وهذا موضوع لا يكتمل الشعور بأهميته، في سياق ذلك التقابل الثنائي، إلا باستحضار مفهوم الإرهاب المقصود في الاجتماع، بوصفه انتساباً مزوَّراً من قبل الإرهابيين أنفسهم إلى الإسلام، وإلى قِيَمِه في الجهاد والشهادة والولاء والنصرة والخلافة التي تُؤَوَّل لديهم وتُشَوَّه بأبشع الصور وأدلها على العمى والعدمية.
وإذا كان موضوع القمة في وجهته تلك التي تقصد التحالف ضد الإرهاب والتطرف ومكافحتهما، يجمع بين طرفين: طرف متعدد يجمعه الانتساب الإسلامي وطرف أميركي، فإنه يدلل باجتماعهما على النفي لنسبة الإرهاب إلى الإسلام، وهي النسبة التي باتت تتردد لدى عديد الدوائر الغربية اليمينية الأوربية والأميركية، ولدى الدوائر الصهيونية، بشكل صريح أو موارب، على نحو يصدِّق مزاعم الإرهابيين، ويذهب إلى تعميم صفتهم على الإسلام وأهله جميعاً.
وهنا تحديداً منبع رمزية التقابل في الاجتماع التي تُخصِّص الانتساب الإسلامي مقابل الأميركي؛ فلا يكفي أن نفهم هذا التقابل بقصره على موضوع الإرهاب، ولا الإرهاب بوصفه حدثاً مستقلاً ومعزولاً لاستدعاء هذا التقابل.
إنه تقابل يستمد إلحاحه وتوتره منذ برزت ثنائية «الإسلام والغرب» حديثاً، هذه الثنائية الميتافيزيقية التي صنعها العقل المجرَّد والمتعالي، كسائر الثنائيات المتمركزة، بحكم التضاد والتراتب بين طرفيها، على تفاضل يرفع أحد طرفي الثنائية ويخفض الآخر، وذلك نتيجة النظر من زاوية واحدة للرؤية تطمس غيرها من الزوايا وتعدمها، تبعاً للإيديولوجيا أو الثقافة. وأخذ يتصاعد إلحاحها وتوترها في الوعي بالتاريخ الأحدث والمعاصر، في كلا العالمين الإسلامي والغربي، كل من وجهته، وليس في أحدهما وحَسْب.
وهي ثنائية مركزية في العالم الإسلامي، إذا نظرنا إليها ضمن نظرتنا إلى عديد الثنائيات الأخرى التي تختلف فيها وعليها ساحة الإيديولوجيا والثقافة، وتتصارع. ذلك أنها من هذه الوجهة منبع ثنائيات متضادة عديدة، ومدار أفق الاصطراع عليها والاختلاف بشأنها عربياً وإسلامياً.
فالصراع بشأن «الأصالة والمعاصرة» يوازي أو يتقاطع مع الصراع بشأن «التراث والحداثة» أو «التقليد والإبداع» أو «الدولة الدينية والدولة المدنية» أو يرادفه. وهو الصراع الذي لا ينفصل في تلك الثنائيات عن ثنائية «الخصوصية والعولمة» ولا عن ثنائية «الأنا والآخر»، ولا عن «الحوار والصراع بين الحضارات»... إلخ.
إنها جميعا ثنائيات في العقل العربي والإسلامي الحديث، متواشجة مع الصراع الكامن في ثنائية «الإسلام والغرب» ومنبثقة عن التوتر المنطوي فيها. تستمد منه -فيما تستمد- توترها، وشحنتها العاطفية، وعلَّة التراتب الذي يعلو -من زاوية والعكس من زاوية أخرى- بطرف من طرفيها ويدنو بالآخر المقابل له.
وأظن أن الكتب والمقالات والندوات التي تأخذ عنوانها في الساحة العربية والإسلامية من «الإسلام والغرب» دليل ذلك في كثرتها وفي تضمنها تلك الثنائيات الفرعية، ومثلها المؤلفات والفعاليات التي تُعنوَن بشيء من تلك الثنائيات الأخرى، في كثرتها -أيضا- وفي تضمنها ثنائية «الإسلام والغرب» التي تؤطِّر مفاهيمها المتقابلة ثنائيا، وتُسبِّب ترتيب أحدها على الآخر والتمركز عليه.
وليست تهمة «التغريب» أي الوقوع تحت تأثير الغرب، التي يعاب بها في الساحة العربية الإسلامية ويُنتقَص الطرف المقابل في كل ثنائية متمركزة على الذات والخصوصية والتراث والتقليد، إلا دليل تلك المركزية التي تتخذ من الغرب طرفاً ضدِّيا في العلاقة مع ذات تتعرف -أول ما تتعرف- بصلتها بالإسلام.
وبالطبع فإن ثنائية «الإسلام والغرب» وغيرها من الثنائيات، مصنوعة إيديولوجيا وثقافيا، وليست طبيعية أو بدهية، فليس من ضرورة لتعليق ثنائية «الذات والآخر» أو ثنائية «الديني والمدني» عليها ولا ما يتفرع من ثنائيات «الأصالة والمعاصرة» و«التقليد والحداثة»... إلخ.
فقد عرفت الثقافات الإنسانية جميعا تلك التمركزات العقلية التي تولدت عن الصراع بين ثنائيات متقابلة ومتضادة، عرفتها المجتمعات القديمة والحديثة، بما فيها المجتمعات الإسلامية والغربية على حد سواء. وفي تراثنا صراع -مثلا- بين الحداثة والتقليد، وبين الأصيل والدخيل، لا يقل عن الصراع بينها في العصر الحديث.
ولا يعني ذلك إنكار أي طرف من أطراف الثنائيات المذكورة، لأنها موصوفة في الواقع، ولا مجال لإنكار الغرب ولا الحداثة ولا المعاصرة، كما لا مجال لإنكار الإسلام ولا التقليد ولا الأصالة. وإنما يعني التنبُّه إلى ما يصنعه اتخاذ مركز واحد للرؤية، من اضطرار يحيل الأشياء إلى أزواج أي ثنائيات متقابلة، بينها تفاضل وتراتب، هو مبرر تقابلها وتضادها؛ فالتنبُّه إلى ذلك هو التنبُّه إلى محدودية الإيديولوجيا التي ترى تلك الرؤية الأحادية، وتسجن العقل الذي تهيمن عليه فيها.
فليس هناك زاوية واحدة للرؤية أو مركز واحد، بل زوايا مختلفة ومراكز عديدة، وعندئذ فإن الزوج الذي يجمع طرفاه التضاد والتقابل من زاوية ثقافية أو إيديولوجية معينة، يمكن من زوايا أخرى رؤية التلاقي والتشارك، بينهما، التي لم يكن يسمح بها الانحصار في رؤية لا تستطيع مجاوزة ذاتها. وهو ما يغني الطرفين بتعديد وجوه النظر إليهما وينزع التوتر الإيديولوجي المصطنع الذي يحصرهما في التقابل والتعاكس.
هكذا يمكن أن نعود إلى صفة الصراع في ثنائية «الإسلام والغرب» وحدها؛ فالصراع والاختلاف الإيديولوجي والثقافي عليها يخرجها من الأحادية، فالغرب -إذا نظرنا إليه من موقعنا في الساحة العربية الإسلامية- موضع قبول ورفض، والقبول أو الرفض -كل على حدة- متعدد في زوايا النظر إليه ومختلف، وجزئي وليس كلياً. والإسلام -إذا نظرنا إليه من موقعهم في الساحة الغربية الأوروبية والأميركية- موضع قبول ورفض متعدد الأسباب والوجهات وجزئي وليس مطلقاً.
ولن تكفي المساحة لتعداد الأمثلة على مواقف ومقولات شاهدة على ذلك من قِبَل علماء دين ومفكرين ومثقفين، تحكي تعدُّد الموقف إسلاميا وعربيا من الغرب والتعديد لمفهومه، ولا لتعداد مواقف ومقولات لرجال دين ومستشرقين وفلاسفة ومثقفين، تحكي تعدُّد الموقف في الغرب من الإسلام والتعديد لديهم لمفهومه.
والنتيجة هي التعدد والاختلاف في الرؤية إلى «الإسلام» وفي الرؤية إلى «الغرب»؛ فلم يكن الإسلام، فيما يتمثله المسلمون، كتلة واحدة، متجهة إلى رفض الغرب ومعاداته، أو لمعاداة ما هو محسوب على الغرب ومتصل به من أطراف الثنائيات المصنَّفة في مضادة الذات الإسلامية ومتعلقاتها. وتوهُّمُ تلك العدائية من المسلمين للغرب، كما يشيع في عديد الأدبيات الغربية، والسعي فيها إلى تكريس منطق الصراع لا يعدو منطقاً عنصريا وإيديولوجيا محدود الرؤية والوعي وضالعاً في الشر والدموية.
ويمكن، بالقدر نفسه تماماً، حساب المسألة من وجهة الغرب تجاه الإسلام؛ فلم يكن الغرب كتلة واحدة متجهة إلى العداء للإسلام وأهله، على الرغم من وجهات العداء العديدة له. وتوهُّمُ انحصار الغرب وتوحُّدُه في العداء للإسلام ومحاربته، لا يعدو أفكار المتطرفين والمتعصبين، المحاصرة في سجن الإيديولوجيا، والضالعة في الهوى والعدمية.
التعليقات