&محمد علي فرحات&&

ما إن تحول الحكم في تركيا بالانتخاب إلى نظام رئاسي حتى بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان نزاعات شعبوية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الشعبوي هو الآخر. ضجيج في الخطابين وقرارات ضد وزراء لدى الطرفين تحدث صخباً إعلامياً أكثر مما تؤثر سلباً في العلاقة الاستراتيجية، ففي النهاية تمسك الدولتان الأميركية والتركية بورقة الخلاف وتعيدانها إلى حجمها، مجرد ورقة في رياح الإعلام لا تقدم ولا تؤخر. وفد تركي رسمي اليوم في واشنطن يوقع اتفاقات على ملفات اعتبرها الرئيسان خلافية. وقبل الوفد كان اتصال وزير الدفاع الأميركي بنظيره التركي والبحث في «قضايا استراتيجية»، إشارة إلى الجانب الثابت في العلاقة والنأي بالنفس عن صوت الرئيسين حينما يعلو وتكثر التصريحات المتسرعة، فقط من باب الدعاية الداخلية وتأكيد النهج الشعبوي الذي لا يليق، على الأقل، برئيس دولة كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية.


سلاح أردوغان الموقع الجغرافي لبلده، يتقن استخدامه مع واشنطن عبر عضويته في حلف الأطلسي، ومع أوروبا لكون تركيا بوابتها الشرقية عند بحر إيجه يفتحها أردوغان ويقفلها كيفما يشاء، وليست بعيدة «صواريخ» اللاجئين التي أطلقها على البرّ الأوروبي ولم يوقفها إلا بعدما قبض الثمن عداً ونقداً، أما روسيا فتدرك قبل غيرها أهمية موقع تركيا، معبرها الوحيد إلى مياه المتوسط الدافئة وإمكانات النفوذ في العالم العربي بدءاً من سورية.

وفي الخلاف الأميركي– التركي يستفيد أردوغان من كونه معادلاً للرئيس الأميركي، وهذه نقطة شعبوية تعزز نفوذه في الداخل حيث يتزايد عدد الأتراك الذين لا يرغبون بالتقرب من الغرب، ويفضلون النظر إلى أنفسهم كأبناء أمة شرقية مسلمة وورثة إمبراطورية عثمانية. من هنا يستمد السلطان وزنه ليتكافأ مع سيد البيت الأبيض.

بتسوية الملفات التركية – الأميركية تعود السياسة إلى نصابها في البيت الأبيض، فبعيداًمن الشعبوية لا تزال الشؤون الاستراتيجية للولايات المتحدة تدار بطريقة ما قبل عهد ترامب، ولا تزال لغة واشنطن تركز على الثالوث الإسرائيلي- التركي- الإيراني في الشرق الأوسط، وفي ذروة حصار قد ينهي النظام الحاكم في طهران لا تزال الإدارة الأميركية تطلب تغيير سلوك علي خامنئي لا تغيير نظامه، في تجاهل تام للوحدة الموضوعية بين السلوك والنظام، باعتباره إدارة أيديولوجية تركز على عبور الحدود لا الانكفاء إلى الداخل. ربما كان ترامب هو الذي كرس الوجود الروسي في شرق المتوسط، فأصبح الثالوث رابوعاً، بل إن موسكو لن تكتفي بحصتها في الشرق الأوسط إنما بالحضور كمنافس دولي للولايات المتحدة.

لا ينكر أحد مهارة أردوغان في ألاعيب السياسة الدولية، فعلى رغم شعبويته المخيفة هو لاعب جيد على التوازنات ويذهب إلى تحالفات تبدو ذات جذور وكأنها عقدت في أوقات سابقة، وفي سورية هو لاعب أساسي باعتراف خصومه، يبدو واثق الخطى وإن كان استحضر إلى حدوده في شمال سورية عشرات آلاف المتطرفين الموصوفين عالمياً بالإرهاب، لكنه ماهر في المناورة وقد يسمح بقتل هؤلاء في مجازر جماعية من دون أن يرف له جفن. ومن علامات هيبته، بل رهبته، أن المعارضين السوريين اللاجئين إلى تركيا بدأوا يصرّحون في شؤون بلدهم بما يتلاءم مع وجهة النظر التركية، وإنْ تعارَضَ ذلك أحياناً مع قناعاتهم. وهو يمارس تغييراً ثقافياً عبر حملات التتريك المعلنة في مدن الشمال السوري التي يواجهها العالم القريب والبعيد بصمت وبغضّ نظر.

لا اعتراض حقيقياً على أردوغان، لا من إسرائيل ولا من روسيا وأميركا ولا من إيران شريكته وغريمته على الأرض السورية. لذلك يذهب في شعبويته أحياناً إلى حد التهور. والأهم أن لا اعتراض من الداخل التركي، وتحديداً من الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» وحلفائه. ربما استطاع أردوغان تحويل الجيش إلى أداة بيد الرئيس وأفقده هامشاً من الاستقلالية كان يتميز به. أما المجتمع المدني، فلا يزال مهدداً بتهمة التعامل مع فتح الله غولن، تلك التهمة الغامضة التي بعثت الشلل في النخبة التركية التي لا ينقصها الوعي والذكاء والوطنية.

حينما يذهب ترامب بعيداً في شعبويته تردعه إدارة الدولة الأميركية، وحين يذهب أردوغان فلا رادع له، لأن الدولة في تركيا هي الرئيس والرئيس هو الدولة. من هنا نقطة الضعف في جسد أخيل التركي كما سردتها الأسطورة منذ قرون في طروادة (تابعة جغرافياً لتركيا) حين انهار الجسد من نقطة ضعفه هذه: فتش عن الأكراد.