عدنان أبو زيد


يارا (10 سنة) ولافين (11 سنة) فتاتان عراقيتان، أحبتا فن رقص الباليه، منذ نعومة أظفارهما، فقرر والداهما إدخالهما مدرسة الباليه في بغداد لتحصد يارا، كأس التفوق في أولى خطواتها. تقول والدة الطفلتين لارا محمد: إن {تعلّم فن الباليه، زَرَع الثقة في نفسيهما، وجعل منهما شخصيتين قويتين، ما شجّعهما على المشاركة في مهرجانات واحتفالات وطنية، كان آخرها (احتفالية التحرير) التي رعتها محافظة بغداد}.

وتكشف محمد عن أن "الأوضاع المضطربة التي تشهدها البلاد، وسيطرة الأفكار المحافظة على اتجاهات الراي والفعاليات الاجتماعية، يعوق الكثير من الأطفال من الالتحاق بمدرسة الباليه".

وبقول أحمد سالم غاني مدير المدرسة لـ"الصباح" :ان "المدرسة منذ بداية تأسيسها حرصت على هوية ثقافية وفنية عراقية، على رغم ان الباليه فن غربي، لكنها تعاني من الروتين الإداري في دائرة الفنون الموسيقية ووزارة الثقافة، ومن بعض أصحاب التعصب الثقافي والاجتماعي، الذين نشروا الشهر الماضي، صور حفل نظمته المدرسة، تُظهر حركات الفتيات الراقصات، وقاموا بالتنديد بالمدرسة".


واقع المدرسة


&ويشير غاني الى ان "المدرسة تتألف من قسم الموسيقى الغربية لتدريس آلات الاوركسترا، و قسم الموسيقى الشرقية ويضم الآلات الشرقية والتراثية، و قسم الباليه لتدريس الرقص ضمن المنهج الروسي".
ويوضّح غاني تفاصيل فنية عن المدرسة، فيقول: "تركّز المدرسة على تعليم التلاميذ بأعمار تتراوح بين 6 و18 عاماً، فنون الموسيقى والرقص، وبطاقة استيعابية لنحو 600 طالب، يتم قبولهم فيها، وفق ضوابط صارمة، بالتنسيق مع دائرة الفنون الموسيقية".


ويستطرد غاني: "الحرص الشديد من إدارة المدرسة على إنجاح برنامجها التعليمي، يكون عبر سياقات معروفة، لا حياد عنها، لضمان جيل جديد نوعي، منفتح على الثقافات، اذ يدخل الطفل بعمر اربع سنوات الى المدرسة، ويستمر في الدراسة فيها لمدة 12 سنة حتى السادس الثانوي، ينال فيها معرفة في كافة أنواع العلوم والآداب واللغات والمعارف الأخرى، وقد نجحت في استقطاب الكثير من المواهب منذ تأسيسها".
ويفسر الباحث النفسي والاجتماعي من جامعة بغداد، احمد عباس الذهبي، الإحجام عن تعلم فن الباليه، بقوله لـ"الصباح" ان "المجتمع العراقي صاحب نظرة دونية تجاه هذ الفن الذي يعد فنا راقيا وممارسة ثقافية بعيدة عن أسلوب وأغراض الرقص التقليدي، كما ان بعض أفراد المجتمع يعده فعالية غريبة على الثقافة السائدة، بل حتى المثقفين وأولئك الذي تلقوا تعليما راقيا ومتفتحا، يخشون إرسال أبنائهم لتعلم فنون الرقص، تجنبا للرفض الاجتماعي، الأمر الذي أوجد ممانعة اجتماعية تجاه هذه الممارسة الفنية".
النظرة السلبية تجاه هذا الفن انعكس أيضا على تجربة مماثلة شهدها إقليم كردستان بافتتاح مدرسة لرقص الباليه في مدينة بالسليمانية في العام 2008، لكن مهاجمتها من قبل قوى في المحافظة، فضلا عن طبيعة المجتمع الكردي العشائري، أدى الى اغلاقها نهاية العام 2014، لتعاود من جديد العمل العام 2016، وقد نجحت في تنظيم عروض مميزة نالت الاهتمام.
وعلى الرغم من أن مدرسة الباليه، هي الوحيدة من نوعها في بغداد، وتعد عريقة في منطقة الشرق الأوسط حيث تأسست العام 1969، برعاية الدولة وإشراف موسيقيين أجانب وعراقيين معروفين، و"بلغت أوج شهرتها ونشاطها طوال سبعينيات القرن الماضي، الا انها لم تتمكن من التوسع بافتتاح فروع لها في مدن العراق المختلفة"، بحسب الموسيقار العراقي إبراهيم السالم& الذي يقول:
"في تلك الفترة، اقبل الأهالي على تسجيل أبنائهم في المدرسة، فيما ازدهرت المهرجانات التي شارك فيها الطلاب، وكان السبب الأول في ذلك، دعم الدولة لها، التي تبنت منهجا ثقافيا منفتحا، وكانت وزارة الثقافة هي التي تموّل المدرسة".


تجربة رائدة


الباليه، شكل من أشكال الأداء المسرحي، يقوم على تقنيات الرقص التعبيري، بمرافقة الموسيقى والمشاهد المسرحية، ويحاكي في الغالب، قصصا وحكايات ومعان، عبر الأداء الحركي المتزن والمتناسق لجسم&
الانسان.
الباحث والمؤلف الموسيقي، والمدرس في معهد الدراسات الموسيقية، سامي نسيم& يشير في حديثه لـ"الصباح" إلى أن "العراق كان سباقا في التأسيس لهذا الفن بين الدول المجاورة للعراق"، موضحا بان "مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد كانت في يوم من الأيام، من اهم المدارس، أبان تشكيلها بداية السبعينيات على يد المنولوجست عزيز علي الذي يعد صاحب فكرة المشروع".
ويكشف نسيم عن ان "المدرسة قدّمت موسيقيين مبدعين توزعوا على العالم، وكان يفترض ان تتوسع هذه المدرسة الى مثيلات لها في مدن عراقية أخرى لتنمية المواهب ولكن بقيت فقط مقتصرة على العاصمة&
بغداد".
ولا يرى نسيم ان هناك "معارضة جدية للمدرسة تحول دون ممارسة عملها"، لكنها "تحتاج الى الدعم، والى منح المعلمين فيها مخصصات المهنة التي كانوا يتمتعون بها أسوة بتدريسي وزارة التربية وبقانون تجاوزته وزارة المالية العراقية بشكل سافر وهو ما يعاني منه مدرسو معهد الدراسات الموسيقية أيضا، ما يتطلب توفير الدعم الكافي لهاتين المؤسستين المرتبطتين مع بعضهما بروابط الموسيقى والإبداع".
يبدو كلام نسيم في عدم تضخيم تأثير الجهات المعارضة لرقص الباليه، متناسقا مع وجهات نظر تتحدث عن توجهات فنية بالعراق بدأت في الاتساع، عبر ورش رقص تدريبية لفئات عمرية مختلفة حيث افتتحت في 1 آب 2018 أولى الورش لرقص الباليه في مؤسسة بيت تركيب للفنون المعاصرة، لاستقطاب متعلمين لاسيما فتيات للفئات العمرية بين خمس سنوات فما&
فوق.


تطلعات مستقبلية


ويعد الباحث والموسيقي العراقي ستار الناصر، ‎ تجربة مدرسة الموسيقى والباليه "أجرأ فعالية جمالية تحققت في السبعينيات"،
كاشفا لـ"الصباح" عن ان "الجمهور العراقي استقبل التجربة بحماسة،& لاسيما من قبل اهالي المناطق المجاورة لبناية المدرسة، الذين توافدوا على تسجيل أبنائهم دون تردد كما كانت الناس تهرع للعروض التي تقدمها المدرسة ".
ويستطرد الناصر: "نجحت التجربة وخرّجت أجيالا من الفنانين الذين رفدوا المشهد الثقافي المتعطش لمثل هذه التجارب الرائعة، وقد تعثرت التجربة في حقبة النظام السابق، الذي انشغل بالحروب عن الثقافة، فتغّير حالها سواء اسمها او برامج عملها ليبدأ العد التنازلي لتألقها، ومع ذلك تشبث بها المدرسون المخلصون وعملوا جاهدين على استمرارها، وديمومة عطائها".
يعرج العازف والملحن كاظم حسين الشويلي في معرض حديثه عن دور مدرسة الموسيقى والباليه في صقل الذائقة العامة، بالحديث عن مشكلة عامة في باقي محافظات البلاد، وفي بغداد العاصمة بدرجة أقل، فيقول لـ"الصباح": ان "المدارس في العراق بحاجة ماسة الى الاهتمام بدروس الفنون، لان ذلك يسهم في محاربة الفوضى الصوتية والبصرية، وينمي الذوق العام، وينهي ظاهرة الأغاني الهابطة التي تسببت تلوثا صوتيا".
ويرى الشويلي ان ذلك لن يتحقق ما لم يتم "تهيئة الأدوات والمستلزمات المطلوبة، والقاعات المناسبة، والكوادر الفنية المتخصصة والمدربين الأكفاء، كما أن ذلك سيكون صعبا جدا قبل أن يترسّخ الوعي وتصبح الفنون مادة أساسية في المناهج المدرسية".


ويأمل الشويلي في أن "تسهم الجهات الحكومية في التأسيس لمدارس فنية& في مختلف مدن العراق، تعزز هذا الاتجاه الذي يبعد النشأ الجديد عن التطرف ويبعث فيه روح الجمال والتجديد".
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الخبير القانوني طارق حرب لـ"الصباح" ان "المادة 34 / ثالثا من الدستور العراقي، أوجبت على الدولة رعاية التفوق والإبداع والابتكار والنبوغ ، كما ان المادة 35 من الدستور أوجبت على الدولة أيضاً، رعاية النشاطات والمؤسسات الثقافية"، فإن الوصول الى هذه الأهداف، لا يتطلب دعما حكوميا، فحسب، بل جهدا مجتمعيا فاعلا، يجبر أصحاب القرار، على الانطلاق بمدرسة الباليه، والمشاريع الفنية، الى آفاق أرحب تصقل سلوكيات الأجيال، وتقدم صورة مشرقة للبلاد في المحافل الدولية عبر فعاليات باليه تسهم في المهرجانات العالمية، بعد أن تشوهّت صورة العراق، بالتنظيمات المتطرفة وأعمال العنف منذ العام 2003.