&نوال السعداوى

&

الموسيقى تتحرك فى جسد الأطفال وهم أجنة داخل الرحم، ويمكن، لو استمرت فى حركتها الطبيعية، دون عوائق، أن تقودهم الى اكتشافات جديدة، قد تغير العالم والتاريخ، كما حدث مع اكتشاف الجاذبية الأرضية، وقوة البخار، والكهرباء، والموجات الكهرومغناطيسية، وانقسام الذرة والالكترونات والفضائيات، وعلم نشوء الكون، الذى حرر العقل البشرى من نظرية الخلق الواردة، فى العهد القديم، الذى عقده الإله يهوه مع اليهود، ليصبح ربهم المختار دون الأرباب جميعا، وليكونوا شعبه المختار دون شعوب العالم، كانت تجمعنى بسارة، زميلتى اليهودية بالمدرسة الابتدائية، وإزيس زميلتى القبطية، صداقة طبيعية يشعر بها الأطفال، ويمكن أن تستمر، لولا أوامر المدرسة، كانت عقولنا الطفولية تتمتع بذكاء فطرى يجعلنا نرفض التفرقة، ونلتقى سرا، ثم انتصرت المدرسة ولم نعد نلتقي، لكن عقلى لم يكف عن التساؤل لماذا التفرقة بيننا؟ فأصبحت أقابل صديقاتى وكانت الأسئلة البديهية تتحرك فى عقلى حين أسمع الموسيقى تخرج من صندوق خشبى مغلق يسمونه الراديو، من أين يأتى هذا النغم الذى يجعلنى أشعر بالفرح، ويبدأ جسمى بالرقص، وكانت القطة ترقص معي، وترقص معنا صديقتى فاطمة بنت الجيران، لكن فاطمة توقفت، قالت أمها إن الرقص حرام، كانت أمى ترقص معى على أنغام الراديو، وقطرات، المطر ترقص فى الشتاء فوق السلم وأخى (طلعت) يدق العود، يتساءل عقلى من أين يأتى ماء المطر، ومن أين يأتى النغم من الوتر؟

&قالت جارتنا (أم فاطمة) إن الله يرسل المطر من السماء، لكن أمى قالت،ان بخار الماء فى الجو يتكثف بالبرد ويتحول الى ماء المطر، غضبت جارتنا ولم تعد تزورنا، ومنعت ابنتها من لقائي، أصبحت فاطمة تمشى مطرقة ورأسها ملفوف بالحجاب، ثم زوجوها لابن عمها واختفت، كنت أواصل الذهاب للمدرسة، وأعزف البيانو فى حصة الموسيقي، أرقص وأغني، يتفتح عقلى وينمو مع الإيقاع المتسق مع جسمي، تتحرك الأسئلة البديهية فى أعماقي، وتغمرنى الرغبة فى المعرفة، كان أبى يقول ان الرغبة فى المعرفة ليست خطيئة، كما جاء بالعهد القديم، بل إنها الفضيلة الكبرى فى حياة الإنسان،وقبل أن ننام كل ليلة، نجلس، أنا وأخواتى وإخوتي، فى الشرفة المطلة على السماء، يحكى أبى عن قدماء المصريين، يعلمنا أسماء، النجوم، وعقلى تدور فيه الأسئلة، من أين تأتى النجوم والى أين تذهب، أرى النجمة تجرى فى السماء ثم تنطفيء، كنا نسميها النجمة أم ديل، كان أبى يهوى علم الفلك, ويهوى الأدب والشعر، يقول ان العلم والفن توأم، لا ينفصلان، كانت أمى تحلم بأن تكون عازفة بيانو، وتتمنى أن تكتشف أشعة جديدة، مثل مدام كيوري، تعالج الأمراض، فى المدرسة الثانوية كنت أحب حصة الأدب وحصة الكيمياء، مكانى المفضل كان المعمل، حيث أخلط المواد وأسكب الأحماض على ذرات المعادن، لتنتج مواد جديدة، وقد تحدث فرقعة مفزعة، أو غاز خانق، حتى أصدرت الناظرة أمرا بعدم دخولى المعمل، ثم أحببت علم الرياضيات وتفوقت فى الهندسة والجبر، فطلبت وزارة المعارف أن أصبح مدرسة رياضيات، لكنى رفضت، كنت أكره التدريس والمدرسين, ودخلت كلية الطب، لأنى كرهت حصص الجغرافيا والتاريخ، وأحببت علم الأحياء والكيمياء، وكنت أحلم باكتشاف دواء لعلاج عمتى من السل الرئوي، فى معمل البيوكيميسترى بكلية الطب أمارس هوايتي، كان عقلى يتفتح وقلبى ينشرح بتجارب الكيمياء الحيوية مثل الكتابة الأدبية، لم أشعر بأى تناقض بين العلم والفن، كل منهما يفتح عقلى وقلبى على الآخر، أما الموسيقى فهى عشقى الأكبر، هى علم وفن, بل هى الأم الكبرى للعلم والفن, لم يكن أمامى طريق لدراسة الموسيقي، لم أواصل العزف على البيانو منذ المدرسة الابتدائية، فلم يكن فى بيتنا بيانو، كان ثمن البيانو يساوى راتب أبى من وزارة المعارف لمدة ستة أشهر، لكن الفشل فى دراسة الموسيقى ساعدنى على التحدي، فالنجاح يتطلب الفشل، تدفع الهزيمة الى شجاعة المقاومة، وكسر الحواجز، هكذا حصلت على مجانية التفوق بكلية الطب، ولم يدفع أبى إلا التشجيع الأدبي.