علي القاسمي
تجيء مفردة «الانحراف» شائكة وذات منظور ضيق، حبسناها فترة طويلة في خانة السلوك المشاهد لا الخفي، ظناً منا أنها لا تخرج من هذه الخانة مطلقاً، وثقة بأن وجعنا وصداعنا ينموان وينشآن على وقع السلوك المائل وتداعياته، لكن ذاك لم يكن صحيحاً ولا دقيقاً فسيد الانحراف وأبوه الروحي كان الفكر، فحين يلامس المصطلح هذا المجال الواسع نكون إزاء خانات لا تتوقف عن الانحراف، الانحراف الفكري جنى علينا ما فيه الكفاية، وتحملنا وزره إلى الحد الذي بات الانغماس فيه شيئاً عادياً وغير ملحوظ وغير محاط بالعيب والخوف.
قد نتفق ونختلف في الصفات التي يمكن في حال توافرها أن نصف شخصاً ما بأنه في بحر الانحراف الفكري، ولا يهم الاختلاف والتنازع المبكر في هذه الصفات مقدار ما يكون من المهم جداً أن نصل إلى منطقة التقاء نصبح فيها إزاء قناعة وامتلاء في أن نجيب إجابة نموذجية عن السؤال الكبير الذي نصه: «متى نُعبِّر عن الفكر بالانحراف ونبدأ في التنبه والاحتياط من الفكر وصاحبه؟». ولعل الإجابات المبكرة الضيقة التي تخرج من رحم السؤال تؤكد أن ثمة خللاً حقيقياً في استيعاب معضلة ومأساة الانحراف الفكري ونموه ببساطة لا متناهية وصمتٍ يشبه التأييد.
هل يمثل الغلو في الدين - على سبيل المثل - مساراً من مسارات هذا الانحراف؟ وماذا عن مسارات التناقض وسوء الظن والعنصرية والكراهية والتعصب واستعداء الآخر بما تيسر من وسائل الاستعداء؟ هل ادعاء فهم الدين وتبني فكرة الإخلاص المطلق يُحسبان في إطار هذا الانحراف أم يعَدّان محاولات هامشية على خط التصحيح والإصلاح؟، هناك - ولا شك - جدل سيدور وخلافات تتورم حينما نفكك الأسئلة الصغيرة ونذرع جيئة وذهاباً في مأزق الصراع على الإجابات التي ستنفي تهمة الانحراف الفكري عن مسارات معينة، وتستعيض عنها بأسطر مطاطية تميل إلى تغليب حسن النيات، وأن للمجتهد المخطئ أجراً، وتعزيز ظاهرة الخصوصية التي تجيز لنا ما لا يجوز لغيرنا، وهي - للأسف - الأسطر ذاتها التي نُحضرها منذ زمن طويل إن خنقتنا الأسئلة الصريحة، وكنا في حضرتها نعاني واقعاً لا يمكن تجاهله وضعفاً تفرضه مصالح معينة، لننفي ساعتها أية تهمة، ونتجاهل الأشواك المتناثرة حولنا، بل ونقسم أن هذه الأشواك ليست إلا عبثاً سيزول مع مرور الوقت، وعلاجه الإهمال والنسيان.
لا أجد مسمى بديلاً ولا رديفاً للانحراف الفكري، ومن اللازم أن نؤسس قائمة لكل ما يمكن اعتباره انحرافاً حقيقياً للفكر، مع تباين المستويات والدرجات ونسب التأثر والتأثير، فليس من اللائق أن نقف - وبعد المشوار الطويل مع تبعات هذا الانحراف - في خجلٍ من تسمية الأشياء بأسمائها، أو عدم القدرة على تعرية الجراح بشفافية وشجاعة. هذا هو الوقت المناسب جداً لنخرج بجملة تعريفات لمصطلح الانحراف الفكري، فالمنطوق قد يختلف، إلا أن الوعاء واحد، ولنوجز من بعد ذلك سماته ونبعثها بهدوء للمجتمع، ليكون جزء من نقاشنا دائراً وثائراً حول ذلك التشبع بالطرح، والشرح يعيننا على مواجهة الضبابي من المصطلحات، المتشبع بالمخاوف والشكوك، والغني بالخطر وعظيم الأثر.
التعليقات