بهجت قرني
من الجدليات الرئيسية في التاريخ والواقع العربيين، التنافس وحتى التوتر، بين الرابطة الإسلامية والجامعة العربية. انتهت الأولى منذ مئة عام مع اختفاء الإمبراطورية العثمانية، لكن هل انتهت الثانية والتي تحل غداً ذكرى واحدة من أهم تجسيداتها المعاصرة؟ يُنشر هذا المقال في ذكرى إعلان الوحدة بين سوريا ومصر، باسم الجمهورية العربية المتحدة، يوم 22 فبراير 1958.
إنه حدث مهم في مغزاه، إذ حسم انقسام غالبية العرب بين مشروعين كبيرين سيطرا على تاريخهم: أولوية التوحد الإسلامي أم التوحد العربي؟ الإمبراطورية العثمانية التي استمرت لقرون جسدَّت التوجه الأول، الذي عانى من نكسته الكبرى مع تدهور ثم هزيمة هذه الإمبراطورية وتفككها. وما يزال بعض المؤرخين العرب يتوهمون أن هزيمة ذلك التجمع الإسلامي عن طريق تنشيط دعوة القومية العربية على أيدي بعض المسيحيين العرب، كانت جزءاً من مؤامرة غربية لدحر الإمبراطورية العثمانية كتجسيد للوحدة الإسلامية!
لا نستطيع القول إن جمال عبدالناصر -أبرز نصير للمشروع القومي المعادي للغرب- كان جزءاً من تلك المؤامرة. فقد أسس شعبيته على أساس التوجه القومي، وكما تقول مذكرات الساسة السوريين والمصريين فإن ذلك كان السبب الرئيسي للضغط عليه (من جانب السوريين) لإعلان الوحدة الفورية بين سوريا ومصر. تقول مذكرات هؤلاء الساسة، من محمود رياض (أمين عام الجامعة العربية بعد أن كان سفيراً لمصر في دمشق عام 1958)، إلى أكرم الحوراني (أحد أقطاب التوجه الوحدوي وأول نائب لرئيس دولة الوحدة)، إن مجموعة من الضباط السوريين (بينهم رئيس أركان الجيش) أخذوا الطائرة -دون علم الحكومة السورية- وتوجهوا إلى القاهرة لمطالبة عبدالناصر بالإسراع بإقامة دولة الوحدة. تسبب ذلك السلوك المنفرد من جانب بعض العسكريين في أزمة للحكومة السورية ولعبدالناصر. وبالنسبة للحكومة السورية ذات التوجه الوحدوي في حينه فقد شعرت بالخشية من أن تظهر وكأنها تتنكر لتوجهها الأساسي وغير مخلصة له، وهي التي قام أقطابها بتأسيس «حزب البعث العربي الاشتراكي» سعياً لتنفيذ الأمل الوحدي. أما بالنسبة لناصر، فكان متردداً مع بعض زملائه في دخول وحدة مع سوريا في حينه.
لم يكن أمام ناصر سوى أن يقابل «ممثلي الجيش السوري» الذين توجهوا من المطار إلى لقائه فوراً. كان قراره مع مستشاريه المقربين أن يستمع لهؤلاء العسكريين، ويطلب مهلة لدراسة المطلب السوري ويتخذ القرار فيما بعد. لكن، وأمام الحماس الجارف للعسكريين السوريين، لم يستطع ناصر المقاومة وخضع هو أيضاً لتوجهه الوحدي. وتم إعلان الوحدة الفورية والاندماجية.
وللكلمتين الأخيرتين أهميتهما الفائقة، لأنهما المدخل لشرح لغز آخر في التاريخ العربي: فكيف تكون هذه الوحدة بين مصر وسوريا تجسيداً للحلم العربي، ثم لا تستمر إلا ثلاثة أعوام ونيف؟! لقد قام الانفصال في سوريا ونجح في 28 سبتمبر 1961.
إحدى رسائل الدراسات العليا تحاول الإجابة -وبالأرقام- على هذا السؤال المحوري:
1- إن كلاً من الشعبين كانا جد مختلفين في أصولهما. المصري فرعوني وذو تاريخ ممتد، أما السوري فهو حديث نسبياً وذو تجمعات عرقية مختلفة، لذلك فقد اعتمدنا في إعلان الوحدة على السطحي في هذين المجتمعين ولم يتم إعدادهما. كان هذا الحدث التاريخي المهم غاية في الارتجال.
2- كانت الوحدة اندماجية بدلاً من أن تكون فيدرالية مثلاً، حيث تتم المحافظة على مكونات كل شعب وإعطائه الفرصة لمعرفة الشعب الآخر. والذي حدث هو عكس ذلك تماماً، إذ خلال الوحدة تباعد الشعبان كثيراً، ثم جاء الانفصال.
لعل التجارب الفيدرالية الحالية تتعلم من أخطاء الماضي وتصححه وتهدينا إلى الطريق الصحيح؟
التعليقات