خالد الدخيل
يدعو بعض الكتاب والسياسيين العرب إلى ضرورة الحوار مع إيران. وهي دعوة صادقة، لكنها مفتوحة من دون شروط! هل تؤمن الحكومة الإيرانية بآلية الحوار مع العرب؟ دع عنك تصريحات بعض المسؤولين. هذا معيار ناقص وليس سديداً. تصريحات المسؤولين الإسرائيليين عن الحوار والسلام مع العرب تبز بقدمها وغزارتها تصريحات الإيرانيين. ومع أن العرب اكتشفوا الفخ في الحال الإسرائيلية، كأنهم يعودون إليه مع إيران. الأهم من التصريحات الممارسة السياسية على الأرض، وطبيعة المصالح الإيرانية، كما تنظر إليها حكومة إيران. وقبل ذلك وبعده طبيعة هذه الحكومة والمرجعية الدستورية التي تنطلق منها في سياساتها الإقليمية تحديداً.
إيران بعد الثورة عام 1979 تحولت إلى دولة دينية (ثيوقراطية) تخضع لحكم مطلق لطبقة فقهاء المذهب الإمامي الإثني عشري، وعلى رأسهم الولي الفقيه. هل تؤمن هذه الدولة بالحوار حقاً، وهي مستمرة في التمدد من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية؟ الولي الفقيه لا يزال بعد مرور 39 سنة من قيام الدولة مرشداً لـ «الثورة» وليس للدولة. هل ندرك دلالة التمسك بصفة «الثورة» على حساب الدولة؟ إيران هي أول دولة في التاريخ الإسلامي، منذ دولة النبوة في المدينة المنورة حتى اليوم، تعرّف نفسها وتحدد هويتها على أساس من المذهب الذي تنتمي إليه. وهذا بمقتضى نصوص دستورية ملزمة. ففضلاً على ديباجة الدستور، تنص المادة الـ12 منه، على سبيل المثال، على أن «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشري. وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد...». ولعله من الواضح أن القول إن هذه «المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد» يعني أولوية المذهب على كل شيء، بما في ذلك حركة المجتمع والتاريخ. أما المادة الـ72 فتنص على أن مجلس الشورى لا يستطيع «أن يسن القوانين المغايرة لقواعد وأحكام المذهب الرسمي للدولة، أو الدستور». لاحظ هنا تقديم قواعد وأحكام المذهب الرسمي على نصوص الدستور. ما يعني أن هذه القواعد والأحكام تتقدم على الدستور. وهو ما يتكامل مع نص المادة السابقة. المربك في هذا النص أن تقدم قواعد وأحكام المذهب يتم بنصوص دستورية.
كل ذلك يقع ضمن حق إيران بأن تختار الهوية والأيديولوجيا، والمرجعية الدستورية التي تراها. لكن تكمن الإشكالية في أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية دولة دينية. والدولة الدينية بهويتها المذهبية لا تعترف بالحدود الجغرافية والسياسية للدولة، ولا بأن نصوص الدستور وإلزاميتها محصورة داخل حدود هذه الدولة. صفة الجمهورية لا تنطبق هنا أصلاً. فإيران بوصفها دولة دينية، هي بالضرورة دولة مذهبية. نصوص الدستور الإيراني تعكس هذا الموقف المربك بازدواجيته. نصوص أخرى في الدستور الإيراني تتناقض مع مبادئ الحق المشار إليه، ولا تتسق- كما يبدو في الظاهر- مع نصوص المادتين المذكورتين. من ذلك مثلاً ما جاء في الفقرة عن دور «الجيش العقائدي» في ديباجة الدستور. تنص على أن «جيش الجمهورية الإسلامية، وقوات حرس الثورة الإسلامية (لاحظ اختلاف صفة الجيش بأنه إيراني، وصفة حرس الثورة بأنه إسلامي، أي عابر للحدود) لا يتحملان فقط مسؤولية حفظ وحراسة الحدود، وإنما يتكفلان أيضاً بحمل رسالة عقائدية، أي الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل توسيع حاكمية قانون الله في أرجاء العالم كافة». وتنص الفقرة الـ16 من المادة الثالثة، وبالتكامل مع النص السابق، على أن السياسة الخارجية لإيران ترتكز على «القيم الإسلامية والمسؤولية (لاحظ كلمة المسؤولية هنا) الأخوية تجاه المسلمين كافة، والدعم المطلق لمستضعفي العالم». تمنح إيران لنفسها في هذا النص «مسؤولية أخوية تجاه المسلمين كافة»، أي مسؤولية عابرة للحدود، لم يستشر فيها أحد، لا داخل إيران ولا خارجها. ومثل هذه «المسؤولية» ليست إنسانية ولا أخوية، وإنما هي مسؤولية مذهبية خالصة. وهي بذلك محاولة لتشريع التدخل المذهبي في شؤون دول أخرى ترى حكومة إيران أنها تنتمي إلى مذاهب أخرى لا تتفق مع مذهبها الرسمي. تتكامل مع ذلك كلمة «المستضعفين» الواردة في النص. وهي شفرة إيرانية لا يقصد بها البتة معناها العام المباشر، وإنما أولئك الذين يشتركون مع الحكومة الإيرانية في المذهب خارج حدوده.
هذا، وبإيجاز، على المستوى النظري. على المستوى العملي تسير السياسة الخارجية الإيرانية وفقاً لنصوص الدستور باعتباره المرجعية الحاكمة، وتبعاً لقاعدة أن السياسة الخارجية امتداد للسياسة الداخلية. يلفت النظر في هذا الصدد أن تحالفات إيران الإقليمية هي حصرياً تحالفات مذهبية. هذا واضح أولاً في العراق وسورية ولبنان واليمن، وثانياً أنه لا يوجد في المنطقة حليف لإيران من خارج انتمائها المذهبي. ماذا عن «حماس» مثلاً؟ هذا التنظيم ليس حليفاً لإيران، ولا تعتبره إيران كذلك. وقد تبين هذا مع بداية الثورة السورية. الحقيقة أن كلا منهما يحاول استخدام الآخر. وفي كل الأحوال هذا من نوع الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. الأمر الآخر الذي يجب أن يلفت النظر هو أن الميليشيا المذهبية تشكل العمود الفقري للدور الإيراني في المنطقة. هي أذرعة خارجية يستخدمها «الحرس الثوري» لتنفيذ ما يسميه الدستور بـ«الدعم المطلق لمستضعفي العالم». الأمر الثالث أن علاقة إيران مع حلفائها ليست علاقة طبيعية ومباشرة لدولة مع أخرى، وإنما علاقة من خلال ميليشيات إيرانية تمويلاً وتسليحاً تمثل مصلحة إيران المذهبية، وتقوم بدور الرقيب على الطبقة الحاكمة لهذه الدولة الحليفة أو تلك. ودور حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق أوضح نموذج لذلك.
السؤال هنا: على ماذا نتحاور مع إيران؟ وما هي شروط هذا الحوار؟ ثم ما هو الحوار الذي تريده إيران؟ هل هو الحوار نفسه الذي يدعو إليه بعض العرب؟ لا أحد يختلف مع ضرورة الحوار في نهاية المطاف. لكن ما هي طبيعة هذا الحوار ومنطلقاته؟ وما هي اشتراطاته وحدوده؟ ما يفرض هذه الأسئلة أن العرب وإيران لا ينطلقون من الموقع ذاته. إيران في بداية مشروعها الإقليمي، وهذا بالضرورة حاكم على رؤيتها للحوار، والعرب في موقع آخر؛ موقع المدافع أمام هجمة مذهبية: منقسمين، مخترقين (كما في العراق ولبنان وسورية)، ولا مشروع لديهم. هل يمكن أن يكون هناك في هذه الحال حوار طبيعي ومتكافئ من دون تخلي إيران عن آلية الميليشيا في دورها الإقليمي؟ المدهش أن هذا الموضوع يغيب عن كل مقترحات الحوار العربية.
تفاوض العرب والفلسطينيون مع إسرائيل ما يقرب من أربعة عقود، والنتيجة أقل ما توصف به أنها بائسة. كسبت إسرائيل كثيراً من هذه المفاوضات في مقابل خسائر فادحة ومتراكمة للعرب. لماذا؟ لأن العرب قبلوا بمفهوم للحوار غير مشروط وغير متكافئ، أي قبلوا بالمفهوم العام والساذج. ذهب الفلسطينيون مثلاً إلى المفاوضات ليجدوا أنفسهم مرغمين على التخلي، من دون أي مبرر، عن مبدأ الاعتراف المتبادل. اعترفوا بإسرائيل من دون اعتراف مقابل، وقبل بداية المفاوضات. هكذا! بالتوازي مع ذلك لم يشترط الفلسطينيون وقفاً كاملاً للاستيطان أثناء التفاوض، وقبل التوصل إلى اتفاق نهائي. الأمر الذي سمح للإسرائيليين باستخدام المفاوضات بمثابة غطاء شرعي فلسطيني ودولي لاستمرار الاستيطان أثناء المفاوضات، وبعدها، ثم استخدامه ورقةَ ضغطٍ مستمرة على الطرف الفلسطيني. المذهل أن هذا استمر منذ عام 1982، حتى اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. اكتشف الفلسطينيون، متأخرين للأسف، كارثة الخطأ الاستراتيجي الذي وقعوا فيه، لملهاة اسمها الحوار والمفاوضات. هل نكرر هذه الملهاة مع إيران والتجربة مع إسرائيل لا تزال حية، ولم تصل إلى خواتيمها بعد؟ سيقال، لكن إيران ليست إسرائيل. إيران دولة إسلامية. هذا صحيح، لكنه بإطلاقه هكذا كلام أخلاقي ساذج. ماذا عن حقيقة أن عدد من قتلتهم ميليشيات إيران من العرب منذ عام 2003 حتى الآن فقط أضعاف من قضوا في الصراع مع إسرائيل منذ 1948 حتى الآن؟ الدول كما يقال ليست جمعيات خيرية لا باسم الإسلام، أو المسيحية، ولا باسم الديموقراطية. المدهش أننا لا نقر بهذا المبدأ إلا في العلاقة مع الغرب. وهذه قمة السذاجة السياسية. ما يحكم علاقات الدول هي المصالح وتوازنات القوة. من دون تخلي إيران عن آلية الميليشيا بوصفها حاملاً لدورها الإقليمي الذي تطالب به، ومن دون قبولها بحصر المفاعيل المذهبية لنصوصها الدستورية داخل إيران، سيصبح الحوار معها غطاء لشيء تريده إيران ولا يتمناه العرب. وسيؤدي إلى النتيجة ذاتها التي انتهت إليها المفاوضات مع إسرائيل. فهل من معتبر؟
التعليقات