فيصل العساف

 وأنت تستمع إلى أحاديث ولي العهد السعودي، من السهل عليك «كمنصف» الاعتراف بأنك أمام شخصية مثقفة وواعية، حاضرة البديهة في شكل مذهل وتدرك الأبعاد الحقيقية لما تطرح. في السعودية، نعتقد جازمين بأننا نجتاح الزمان بقوة، بقيادة الشاب «المُلهم» الذي ملأ المكان حتى صار مثلاً عبقرياً ساطعاً في سماء السياسة. اللافت للانتباه، أن تعالي أصوات الحانقين المرجفين الذين باتوا يعانون ما يمكن وصفه بحمّى الأمير، أصبح من مرادفات حضوره الإعلامي المبهر! الأكيد، أن ذلك ليس سوى «محاولة» لرمي الشجرة المثمرة، هذه المرة بالكذب والبهتان، لكنه يطوي مضامين عدة في الواقع، أدناها أن رسالة السعودية الجديدة أرهقت من به حقد، وأعلاها يؤكد أن السعوديين يسيرون في الطريق الصحيح، فتلك الحناجر المتلونة، ملوثة بداء الكيل بمكاييل الخيانة وإماطة الحقيقة عن العقول.

في لقائه مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية، أظهر الرجل القوي محمد بن سلمان، إلى جانب شجاعته في اقتحام كافة القضايا بوضوح، أنه لم يتنازل عن الثوابت الراسخة عربياً وإسلامياً في تناول القضية الفلسطينية من الناحية السياسية، على رغم استماتة البعض في «ليّ» عنق الحقيقة بطريقة أو أخرى. تحدث ولي العهد عن دولة إسرائيل باعتبارها حقيقة لا يمكن إنكار وجودها اليوم، مثلما أنه يستحيل إنكار حجم الدعم الكبير الذي تتلقاه من دول العالم القوية، مجدداً تبنّي السعوديين نظرة واقعية للخلاف، بدأها الملك فهد، الذي طرح في قمة الدار البيضاء 1981 بالتشاور مع بعض القيادات الفلسطينية، ما بات يعرف بـ «مشروع فهد للسلام»، في معرض مساعي السعودية إلى تجنيب العرب ويلات هم في أمس الحاجة إلى تجنّبها، لولا «عنتريات» القوم، ومحاولاتهم الحثيثة للاستئثار بالرؤى والنفوذ والمايكروفونات أيضاً، فيما على الجميع أن يدفعوا فاتورة طيشهم! مروراً بالمبادرة العربية التي قدّمها الملك عبدالله في بيروت 2002.

القيادة السعودية تعي حقيقة أن أرضها جنة تحفها شهوات الطامعين، ويمكن القول إن لديها فهماً مختلفاً عن ذلك الذي ينظّم صفوف النفاق والمواقف الرخوة التي تحيط بها. مردّ ذلك إلى أنها غير مرتبطة بمصالح ضيقة تتحكم في أفعالها، وأهم من ذلك وعيها التام أنه ليس ثمة «سعودية» أخرى تقف إلى جانبها، وتساندها، كما تفعل هي عندما يحتاجها الآخرون. من المهم في هذا السياق عدم تجاهل الدور الإماراتي الثابت تحت راية المصير المشترك، في الوقت الذي تُحرك البقية دوافع آنية ومصالح ضيقة، والسعودية لا يمكنها أن تعير التقلبات انتباهها في معزل عن مصالحها هي، ولا أن تبني مواقفها بانتظار ما ينتج من سياسات الغرف المظلمة.

حين تحدث الأمير عن فلسطين، فإنه بلا شك كان يتحدث بلسان المسؤول، على رغم الدروس القاسية التي يقدمها بعض الفلسطينيين، في فن الجحود والاصطفافات المناهضة، والجروح الغادرة الغائرة التي لا تندمل سوى بالترفع عن الانسياق خلف نتائجها. «حماس» تهرول خلف مجرمي الحرب الإيرانيين، وكأنها لا ترى مخازيهم في العراق وسورية أو اليمن، أما بقية الفصائل فإن بعضها يتبجح في القتال إلى جانب بشار وزبانية قاسم سليماني، في شكل بغيض من أشكال الارتزاق. الغريب أن «مآسيهم» لم تدرك شيئاً في نفوسهم يحملهم على التعاطف مع القضايا العادلة! هل يوجد عربي لا يعرف حجم الخطر الإيراني حتى هذه اللحظة؟ لا، لا يوجد من لم يحمل وجهه ألماً، ولا من لم يعتصر قلبه حزناً على عذابات العراقيين والسوريين بسبب هذا الخطر، لكن بالتأكيد توجد نفوس مريضة، يتخبطها تمني زوال النعمة عن الآخرين.

لمصلحة من يتم تشويه خطاب السعودية السياسي المتوازن؟ جواب هذا السؤال لا يمكن أن يخضع لحدود العلم، ولا للمنطق القائل «فتش عن المستفيد»، فالعدو البعيد الغريب هو المستفيد، في ما المنفذ لمعاول الهدم من «عرباننا»!

70 عاماً مرت، استغلها «القومجيون» لتمرير أحقادهم وتثبيت سلطان استبدادهم، ثم ماذا كانت النتيجة؟ دمار شامل وهوان، وركام متناثر في الأنحاء يئن تحت وطأة دكتاتورياتهم، وفي الضفة الأخرى، جماعات الإسلام السياسي ولهدف وحيد هو بلوغ السلطة، تنحر الأمة من الوريد إلى الوريد. تشوّه الإسلام، وتلقي بأبنائه في المحارق باسم الذود عن حمى الأمة، حتى حين استولى «الإخوان المسلمون» على حكم مصر، بصمّت «حماس» الإخوانية للإسرائيليين على وقف عملياتها «العدائية» وفق نص اتفاق 2012 الذي رعاه محمد مرسي! فلسطين أيها السادة ليست قضيتهم، فلسطين بضاعتهم.