عبد المنعم سعيد
إذا كان هناك درس نتعلمه من انعقاد القمة العربية في الدمام مؤخراً، فهو أن الواقع الدولي والإقليمي بكل ما فيه من تعقيدات وتركيبات يفرض على الدول العربية أن تجعل علاقاتها بعضها ببعض لها الأولوية، من أجل تحقيق مصالحها الوطنية.
هذا الاستنتاج لا يعني الغربة عن الأوضاع العالمية بما فيها دول عظمى وأخرى كبرى لها علاقات مركبة بعضها مع بعض ومع الدول العربية، ولا الغربة عن الأوضاع الإقليمية أياً ما كان فيها من خصومة أو عداء أو تعاون مع هذه الدولة العربية أو تلك. لا توجد هنا رغبة الخوض في صميم العلاقات الثنائية بين كل دولة عربية من ناحية، وبقية دول العالم من ناحية أخرى خصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وكلتاهما متورطة في إقليمنا العربي إلى الدرجة التي صارت فيها طرفاً إقليمياً له مصالح كونية. ما جرى من مباحثات، وما تم إلقاؤه من كلمات، وما صدر عن القمة من بيانات شكّل الحد الأدنى من التوافق العربي، كما كان في النهاية عاكساً لما هو معروف بالمواقف الثابتة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والجزر الإماراتية، وغيرها من الموضوعات التي يتبدل فيها مكان انعقاد القمم ولكن الموقف منها لا يتغير.
منتج القمة العربية في النهاية هو خاص بالعرب وحدهم، ربما تتعاطف دولة هنا أو هناك معه، ولكن لا أحد يقترب من الاتفاق. من الممكن المزايدة بالطبع كما هو حادث من إيران بصدد القضية الفلسطينية، ولكن المناقصة هي الأمر الشائع بين دول العالم. في كل الأحوال، المزايدة أو المناقصة، فإنه لا يتبنى أحد وجهة النظر العربية سوى العرب وحدهم، ومن عداهم يختلفون بدرجة أو بأخرى. ومن الناحية العملية فإن الواقع الإقليمي يشهد بأن روسيا وتركيا وإيران قد شكلت تكتلاً يخص التعامل مع الأزمة السورية رغم أن إيران لها الوصاية على النظام السوري، أما تركيا فتعاديه، ولكن ثلاثتهم يديرون أمورهم بحيث يحصل كل طرف على ما يريده من مصالح. روسيا حصلت على مرفأ المياه الدافئة في طرسوس، كما أنها ضمنت نظاماً موالياً في دمشق على مدى الزمن المنظور. تركيا من ناحيتها أمّنت شمال سوريا لصالحها ووضعت الأكراد تحت التهديد المستمر، وأضافت عمقاً إقليمياً داخل الأراضي السورية ينفع كمنطقة عازلة. إيران نفذت إلى القلب السوري والتحمت قواتها الثورية مع قوات «حزب الله»، وكلتاهما شكّلت شبكة حماية للنظام السوري مقابل وضع نافذة في مواجهة إسرائيل تلوح لها أو تهددها. من الناحية العملية أيضاً فإن العلاقات بين روسيا وأميركا تمر بمرحلة توتر شبّهها البعض بالحرب الباردة القديمة، في ذات الوقت فإن واشنطن مترددة بين تصعيد التدخل، أو الانسحاب من سوريا على أمل أن تحل الدول العربية مكانها في المهمة.
تفاصيل ما يحدث تذهب إلى ما هو أكثر من مساحة هذا المقال، ولكن الخلاصة هو ما أشرنا إليه سابقاً، وهو أنه لا يوجد لدى العرب سوى العرب الآخرين. مثل هذا عادةً ما يلقى استخفافاً من النظارة، لأن السوابق العربية فيها ما يدفع إلى الشك في إمكانات التعاون الاستراتيجي العربي، وما يمكن أن يشكله من مصداقية. هذه المرة الأوضاع ضاغطة إلى الدرجة التي لا يمكن تجاهلها، وهناك اتجاهان يمكن تنميتهما بحيث ينتهيان إلى تغيير توازنات القوى في المنطقة لصالح الدول العربية. أولهما أنه إذا كان هناك القليل الذي يمكن عمله بالنسبة إلى قضايا عربية مثل القضية الفلسطينية اللهم إلا إذا حاولنا أكثر في اتجاه المصالحة بين التيارات السياسية، فإن هناك الكثير الذي يمكن عمله في إطار تنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول العربية. توسيع السوق العربية يحمي العرب من نوبات الحمائية التي تغشى الدول الغربية؛ كما أن التكنولوجيات الحديثة تخلق مجالاً حيوياً عربياً يشاهد إشاراته مَن يطّلع على شبكات التواصل الاجتماعي، ويراجع المشاهدة على شبكات الراديو والتلفزيون. وثانيهما له طبيعة استراتيجية، وهو أن التجمع الرباعي بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين لا بد له أن يتعمق ويتسع سياسياً وعسكرياً، وإذا كان مستحباً رفض التورط في عمليات عسكرية لا يضع العرب محدداتها، فإن الموقف السياسي في ما يتعلق بالأزمة السورية ينبغي أن يقوم على الوقف الفوري لإطلاق النار بين كل الأطراف، والأهم انسحاب القوات الأجنبية كافة من الأراضي السورية. الأمن في سوريا لا بد أن يكون مهمة دولية يتحملها المجتمع الدولي مع النظام القائم لمواجهة الإرهاب والإرهابيين، وإعداد البلاد لوضع الدستور الحاكم وإجراء الانتخابات الحرة. في هذه الحالة يمكن للدول العربية أن تسهم في الإطار الدولي، وهي حالة يمكن تطبيقها، بالإضافة إلى سوريا، في دول عربية أخرى مزّقتها الحرب الأهلية.
المنهج العربي في جوهره يبحث عن السلام، والمبادرة العربية هي مفتاح حل القضية الفلسطينية وترجمتها هو أنه لا يوجد لدى العرب قضية فلسطينية فقط، وإنما قضية إسرائيلية أيضاً، ولا يمكن حل كلتيهما إلا في إطار إقليمي. فالمبادرة لا تنص فقط على انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة لكي تقوم دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية؛ وإنما أيضاً على إقامة العلاقات الدولية المعتادة بين جميع الدول العربية والدولة العبرية. هنا فإن الفلسطينيين لا يمكنهم الحصول على دولتهم المستقلة ما لم يستوفوا شروط الدولة وفي المقدمة منها أن تكون السلطة السياسية هي المستحوذة والمحتكرة لما يسمى الاستخدام الشرعي للقوة. هي وحدها التي بيدها سلطة قرار الحرب والسلام، وليس شيعاً وأحزاباً كلٌّ منها يدّعي لنفسه القدسية والسلطة المطلقة في ما يخص مصير الشعب الفلسطيني. كذلك فإن إسرائيل لا يمكنها أن تحصل على السلام مع الدول العربية جميعاً، ما لم تكن على استعداد للعيش في سلام مع جيرانها. تجربة السلام مع مصر والأردن لم تنهِ فكرة الحرب فقط في العلاقات الإسرائيلية مع جارتيها، بل إنها فتحت الباب لعلاقات اقتصادية وأمنية مفيدة للطرفين العربي والإسرائيلي. وفي الوقت الراهن فإن هناك آفاقاً من الاكتشافات الحيوية الجديدة للتعاون في مجالات النفط والغاز والممرات البحرية وخطوط الأنابيب وموانئ التصدير لم تتيسر لإسرائيل في أي وقت مضى.
هناك الكثير الذي يمكن تقديمه من جانب التحالف الرباعي القائم، وما يمكن أن يضاف إليه من امتداد خصوصاً مع الأردن، وهو الذي يمكنه وضع الحيوية على المواقف العربية المختلفة من أزمات المنطقة. وإذا كان القادة يلتقون ويتواصلون، والدبلوماسيون يتباحثون طوال الوقت، وأكثر من ذلك، فإن المناورات العسكرية المشتركة الجارية متعددة ثنائياً وجماعياً، فإن أدوات الحركة للتعامل مع قضايا التعاون الاقتصادي وقضايا الإقليم الشائكة تكون ممكنة وتدفع بالموقف العربي إلى الأمام. المهم ألا يكون الموقف وارداً فقط في البيانات الختامية، وإنما أن يكون كلمات يصدِّقها العمل، وربما ساعتها سوف يستمع العالم إلينا ويصغي.
التعليقات