نبيل عمرو
في المجلس الوطني الأخير، ظهر الرئيس محمود عباس بكامل صحته، وعلى نحو يتفوق فيه على الشباب في الحركة والحضور والخطاب. ولكي تتأكد من ذلك كان يكفيك جولة لعدة دقائق بين أعضاء المجلس، لترى محتضراً جاءوا به من على الفراش ليقولوا إنه أبى إلا أن يشارك، وترى مسنين لا يشاهد مثلهم في أي محفل، تشي انحناءات ظهورهم وتجاعيد وجوههم وصعوبة حركتهم، بتجاوز عتبة التسعين، أي أنهم زاملوا أحمد الشقيري قبل ستين سنة.
وما أن انفض المجلس أُدخل الرئيس إلى المستشفى، ليعالج من مرض يصيب الشباب قبل الشيوخ، هو التهاب في الأذن الوسطى، وقد عرفت أعراض هذا المرض لأنه أصابني وأنا في الخمسينات من عمري.
إذن لا خطر يستدعي مبالغات في التقديرات حد الحديث عن وفاة وشيكة، والإسهاب في حكاية مشوقة عنوانها: من هو الخليفة إذن؟
يحيط بالرئيس عدد محدود من الأشخاص، يحملون ألقاباً وأسماءً توحي بالأهمية ومعرفة دقائق الأمور، وهؤلاء هم الذين تولوا التصريح عن حالته، وكأنهم دخلوا في سباق على وسائل الإعلام، شارحين كفريق طبي حالة الرئيس، وطمأنة الجمهور بأن المكوث في المستشفى لا يعني بالضرورة خطراً على حياة الرجل. وبالمناسبة كان أقل المتحدثين هو الطبيب المشرف على علاجه!
كانت التصريحات تحمل توظيفاً سياسياً ساذجاً، زاد الحالة الشعبية غموضاً وبلبلة، بعضهم - أي المصرحون - أنكر وجود مرض من أي نوع، وأن زيارة المستشفى كانت لإجراء فحوص روتينية، وبعضهم كان أكثر سخاءً في الإعلام، ظناً منه أنه يبهج الرئيس حين قال إنه يؤدي عمله كالمعتاد وربما بنشاط أكبر، وبعضهم أوحى بأن «الرئيس عصي على المرض وحتى الموت، وعلى الذين يصطادون في الماء العكر أن يتوقفوا عن رهاناتهم».
الرئيس محمود عباس الذي كان أول من أشار إلى أنه دخل العقد الثامن من عمره، هو رجل واقعي، وهو الأدرى من كل المحيطين به عن حالته الصحية، وفي حالته كرقم أساسي من أرقام المعادلة القيادية في الشرق الأوسط، هنالك جهات كثيرة تعرف على وجه الدقة حقيقة حالته الصحية، وأن أمراً مهماً كهذا لا يثبته أو ينفيه تصريح أو عدة تصريحات يقولها كل ناطق وفق رؤيته وأجندته.
غير أن ما يستحق النقاش، سواء كان عمر الرئيس ثمانين أو تسعين سنة، أو كان مريضاً أو معافى، هو مستقبل الوضع الفلسطيني في حال غياب الرئيس لأي سبب كان، وفي هذا المجال تثور أسئلة كثيرة، منها مثلاً:
بعد أن تجمعت كل الصلاحيات في المنظمة والسلطة في يد الرئيس، فهل هنالك من يتمتع بقوة سحرية كي يمسك بكل الخيوط خلال ساعات أو أيام؟ وهل ستدب الفوضى في الساحة الفلسطينية ويرى الجمهور صراعاً مسلحاً على السلطة والنفوذ، واضعين في الاعتبار أن البلد يعج بشائعات تتحدث عمن يتسلحون ويعدون أنفسهم لهذا الاحتمال؟ وهل ستدعم إسرائيل حالة الفوضى بإذكاء نارها كي تكون هي صاحبة اليد العليا في الأمن أولاً، ثم في الاقتصاد والسياسة أخيراً؟ وأسئلة تنبثق عن حالة الغموض التي تغذيها حالة المؤسسات الوطنية المتراجعة بفعل الإهمال في الضفة، والانقسام في كل الوطن.
إن أكثر ما يقلق هو أن لا إجابة محددة عن هذه الأسئلة، وأقوى ما يؤثر في الرأي العام الفلسطيني هو التسريبات الإسرائيلية؛ حيث ثبت أن لدى إسرائيل إعلاماً موجهاً أكثر قدرة على التأثير من أي إعلام عربي. ومن يراقب بدقة لا يجد صعوبة في اكتشاف حقيقة أن مصدر الأخبار الأساسي في كل الشؤون الفلسطينية هو الإعلام الإسرائيلي، فهو وحده من يرشح خلفاء للرئاسة ويحدد فرصهم. وآخر تقليعة إسرائيلية أثرت في الرأي العام الفلسطيني، خبر أطلقه الإعلام الإسرائيلي مفاده أن الحكومة أنشأت مجموعة عمل للبحث في تطورات وخيارات ما بعد عباس.
ونظراً للفراغ المعلوماتي والتحليلي الذي تعاني منه الساحة الفلسطينية المثخنة بالأجندات المتعارضة والمتناقضة للقوى والأفراد، فإن الجميع ينتظر ربما ما سيقوله الإسرائيليون في هذا الأمر، وهذه هي أفدح خلاصة تنجم عن الفراغ وانعدام العصف الفكري المسؤول حول قضية كهذه.
الفلسطينيون قلقون، وحين يراقبون أداء الطبقة السياسية ربما يقولون أو يتمنون أن يمد الله في عمر الرئيس مع كل العلات التي يعرفونها، ويستذكرون حقيقة تتصل بعرفات الذي كان له ثلاثة خلفاء، هم صلاح خلف «أبو إياد»، وخليل الوزير «أبو جهاد»، وأحياناً خالد الحسن «أبو السعيد»، وشاء القدر أن يدفن الرئيس خلفاءه الثلاثة ويبقى حياً، لتؤول الخلافة لمحمود عباس الذي لا نعرف من سيدفن من الخلفاء.
التعليقات