يقدم كتاب «تشكيل العالم العربي: صراع ناصر وقطب الذي رسم ملامح الشرق الأوسط» تشخيصاً أكاديمياً عميقاً يمكن أن يعين المراقب المعاصر على تفكيك الجذور التاريخية للأحداث السياسية في مصر، لا سيما مرحلة ثورة يناير 2011، وما تلاها من صراع مفتوح إلى اللحظة بين الدولة المصرية العميقة وجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمون.

هذه المقاربة في تفكيك مآلات الربيع العربي بطبعته المصرية، التي يقدمها في آخر كتبه (باللغة الإنجليزية) الدكتور فواز جرجس - وهو أستاذ جامعي لبناني أميركي بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لندن - تقوم على نظرية صريحة تجعل من تقلبات تاريخ المنطقة في آخر مائة عام نتاج صراع محتدم بين القوى التي ورثت الدولة المصرية بعد سقوط الاستعمار المباشر، وبالتحديد بين من يسميهم بالوطنيين أو القوميين والإسلام السياسي، المتمثل أساساً في جماعة الإخوان المسلمين، مع استبعاد شبه تام لأية أطراف ثالثة، من قوى يسارية وغيرها، بحكم ما يصفه جرجس بأنه توافق استمر بين القوتين الأساسيتين - رغم صراعهما الدائم - على احتكار الساحة السياسية ومنع صعود قوى أخرى.

يطرح جرجس نظريته من خلال استدعاء الشخصية الأهم التي شكلت ما يشبه مركز الجاذبية لكل من القوتين: جمال عبد الناصر عند الوطنيين، وسيد قطب عند الإخوان، فيسرد مسار حياتهما وصعودهما السياسي، ومن ثم تقاطعهما في مرحلة الستينات، قبل أن يُعدم قطب عام 1966، ويغيب ناصر عام 1970، كمنصة لفهم صراع القوة المستمر بين الجانبين، الذي - وفق جرجس دائماً - ما زال عميق التأثير في وقائع الحدث المصري إلى اليوم، رغم غياب الشخصيتين الرمز في هذا الصراع الذي ساهم إلى حد حاسم بتشكيل طبيعة السياسة والحكم في غير ما بلد عربي عبر الشرق الأوسط.

ينطلق جرجس من حقيقة أن كلا الطرفين في المعادلة المصرية - الوطنيون والإخوان - انطلق من المساحة الآيديولوجية ذاتها التي خلقها الحضور الاستعماري البريطاني، وهيمنته على مصر وأجزاء واسعة من الشرق الأوسط، كاستجابة من قبل المجتمع الأهلي لتحدي الاحتلال، بحيث لا يمكن التحدث عن أية فروقات آيديولوجية أساسية تميز بينهما في تلك المرحلة، بل إن جرجس يكشف عن أن الرئيس جمال عبد الناصر كان نفسه عضواً في التنظيم السري الخاص الذي أنشأه الإخوان المسلمون في الأربعينات من القرن الماضي - كما الرئيس أنور السادات - قبل أن يحدث الصدام الزلزالي بين الطرفين عام 1954، ومحاولة الإخوان التخلص من ناصر بالاغتيال.

ويرى المؤلف أن عقلية الطرفين وأداءهما السياسي لم يخضعا في أي مرحلة لثوابت فكرية، بل كانتا دائماً شديدة السيولة، ونتاج التفاعل بينهما توازياً وتقاطعاً عبر المراحل، ولذلك يجزم بأن الصراع المعقد والمتداخل هو جذرياً تنازع على تولي السلطة، وتملك مقدرات الدولة، واحتكار الفضاء العام، وليس بمعركة آيديولوجية، كما قد يتبادر للذهن، أو صراع ثقافي حضاري الطابع على الهوية العربية، كما يذهب البعض. لقد وظف الطرفان الأدوات ذاتها تقريباً: اللغة والدين والتقاليد الذكورية واستلهام «الأصالة» كمصدر للهوية - كما العنف وتجريد الآخر من صفته الوطنية وحتى الإنسانية - في كل المواجهات التي خاضاها، بداية ضد الاستعمار ولاحقاً في اشتباكاتهما المتتالية معاً، مما يدفع جرجس إلى تقبل نظرية الأكاديمي المصري شريف يونس، القائلة إن الصدام بين الطرفين كان حتمياً بحكم تماثلهما، لا بسبب من تناقضهما.

ويعتمد «تشكيل العالم العربي» في طروحاته على موقف فلسفي لمؤلفه، يؤمن بقدرة الأفراد على الفعل واتخاذ الخيارات، ولذا تجد ثمة استبعاداً حاسماً لأية نظريات مؤامرة حول أدوار محتملة للدول الكبرى في توجيه الحدث المحلي - ربما دون استبعاد أدوار أجهزة استخبارات إقليمية بشأن أحداث معينة في المراحل المختلفة - كما تستند استنتاجاته إلى مادة تأريخية ثمينة، جمعها من العديد من المقابلات الفردية التي أجراها جرجس شخصياً على امتداد ما يزيد على عقد من الزمان مع وجوه فاعلة ومعنية في مواقع مختلفة ومن أجيال متفاوتة، لا سيما تلك التي عايشت الشخصيتين اللتين اختارهما لتمثيل الصراع: ناصر وقطب. وعلى الرغم من أن البعض قد لا يشترك مع جرجس في رأيه هذا، فإن دراية الرجل الطويلة في دراسة شؤون الشرق الأوسط لدى مؤسسات أكاديمية غربية عريقة، ومعرفته بلغة وثقافة المنطقة وشخصياتها الفاعلة، وقربه من مواقع صناعة الأحداث، تدفع باتجاه منح قراءته وزناً قد لا تتوفر عليه مقاربات أخرى، لا سيما تلك التي كتبها غربيون، أو التي أنتجتها أطراف مالت إلى منطق وسردية أحد الطرفين دون الآخر.

ويخلص جرجس إلى أن الصراع المستمر بين الطرفين دفع في المحصلة ثمنه الشعب المصري، ليس من خلال الضحايا والآلام وخيبات الأمل فحسب بل أيضاً في إفراغ مؤسسات دولته الوطنية من المعنى، وتعميق التخلّف الاقتصادي والاجتماعي، وأن الشخصيات الفاعلة في كلا الجانبين كانت سجينة أجواء فقدان الثقة، والذاكرة التاريخية المحملة بالمرارات وأطياف الماضي - مرمزاً إليها بناصر وقطب - إضافة إلى كونها مسكونة بالمصالح المرحلية، ولذا أضاعت الفرصة العبقرية التي مثلتها لحظة يناير 2011 لصنع نقطة التقاء لمصلحة مستقبل مصر.

ويتهم جرجس قيادة الإخوان بالعجرفة وانعدام الخيال وسوء الخيار والفقر المدقع في الأفكار إبان إدارتهم المعركة السياسية في أثناء أحداث يناير 2011 وما بعدها، وأنها فضلت - كما دائماً - التحالف مع الدولة العميقة على الوقوف مع تطلعات الشعب المصري الغاضب - حتى أنهم حاولوا التفاهم مع نظام حسني مبارك في أيامه الأخيرة - فكانوا قوة رجعية مضادة للحراك الثوري النفس، وأنها كررت من جديد فشلها في القفز على الدولة والحكم من خلال الجيش - بعد فشلها الأول في الخمسينات - بدلاً من أن تنحاز لناس الشارع في انتزاع الشرعية لقيادة المجتمع من خلالهم، لكنه في الوقت ذاته لا يخلي مسؤولية تيار الوطنيين في وضع الإخوان بصميم ذلك المربع، الذي أسهمت سنوات طويلة من الحلول الأمنية القاسية، واحتكار الوطنية، في صنع ما يشبه ثقافة القبو المحصن داخل عقليات القيادات الإخوانية التي ما عادت ترى سوى اللونين الأبيض والأسود في تعاملها مع كل الآخرين، وقد تورطها لاحقاً في التعاون مع أجهزة استخباراتية أو أنظمة معادية لدولتها.

ولا يمنحنا جرجس أفق تفاؤل في مستقبل مصر على المدى القريب، إذ هو يرى أن سياسة استئصال الإخوان لن تنجح في القضاء عليهم نهائياً، لا سيما أن سنوات المواجهة الطويلة بَنَت بين الإخوان أنفسهم، وكذلك مع بعض قطاعات الشعب المصري، علاقات تشابك وتداخل مصالح ومصاهرات لن يمكن تجاوزها بسهولة، وأنها قد تدفع جيل القيادات الجديد على الأرض نحو مزيد من التطرف في خياراتهم ضد المؤسسة العسكرية الحاكمة، الأمر الذي سيكون من شأنه إذكاء الصراع الجديد القديم بين أطياف الماضي: ناصر وقطب.

وبموازاة التفكيك المقنع لجذور الحدث السياسي المصري، فإن كتاب «تشكيل العالم العربي» يقدم قراءة شديدة الانسيابية، على مستوى النص الذي جنبه المؤلف بخبرته والتصاقه بفضاء الحدث من الوقوع في جفاف النصوص الأكاديمية، التي تتصدى للتحليل السياسي المعمق بشأن الشرق الأوسط المعاصر، ولا شك أن ترجمته إلى العربية سيكون إضافة نوعية للمكتبة المتسعة دوماً حول التجربة المصرية.