عبد الله المدني

على مدى العقدين الماضيين وفيما خص علاقات إسرائيل بآسيا، ظل تركيز العرب وتذمرهم منصبا على العلاقات الإسرائيلية - الهندية. إذ ساء الفلسطينيين والعرب التحولات الإيجابية التي شهدتها هذه العلاقات منذ عام 1992 من بعد أن كانت الهند منذ عام 1948 إحدى أكثر الدول الأجنبية تأييدا ودعما للقضية الفلسطينية. أما رد الهنود فقد تم إيجازه بالقول إن نيودلهي لم توثق روابطها مع تل أبيب إلا بعد أن فتح أصحاب القضية الفلسطينية أنفسهم أبواب الحوار والتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية، فضلا عن قيام مصر والأردن بتطبيع علاقاتهما مع الدولة العبرية. غير أن هذا التبرير كان يخفي وراءه رغبة هندية دفينة للانفتاح على إسرائيل بهدف الاستفادة القصوى من تقدمها التكنولوجي والعسكري، ولا سيما أن هذا المنحى حظي بدعم وتأييد واشنطن التي حلت مكان موسكو كشريكة استراتيجية للهند بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وليس أدل على صحة ما نقول من وصف ناريندرا مودي رئيس الحكومة الهندية لإسرائيل خلال زيارته لها عام 2017 بأنها "منارة تكنولوجية".

ما لم يحظ بالدراسة لدى العرب حقيقة هو علاقات تل أبيب بالدول الآسيوية الأخرى غير الهند، وتحديدا دول جنوب شرق آسيا بما تمثله مجتمعة من قوة اقتصادية صاعدة وسوق واعدة ووزن سياسي متنام على الساحة الدولية.
صحيح أن تل أبيب أولت اهتماما خاصا في الأعوام القليلة الماضية بهذه الدول خصوصا تلك التي تشكو من اضطرابات سياسية أو حركات انفصالية أو ضغوط من دول كبرى مجاورة (إندونيسيا وميانمار وتايلاند وفيتنام والفلبين مثلا)، وبالتالي تحتاج إلى استيراد أسلحة حديثة وتعاون عسكري بدليل أن قيمة صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى دول جنوب شرق آسيا عام 2015 بلغت نحو 2.5 مليار دولار، إلا أن الصحيح أيضا هو انسحاب اهتمامها أيضا وبالتزامن على اليابان والصين وكوريا الجنوبية من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والدفاعي والسيبراني، ما جعل لإسرائيل حضورا متميزا في كل هذه الأقطار.

وتبرز الفلبين بين دول جنوب شرق آسيا الأكثر تعاونا اليوم مع تل أبيب. ويبدو أن دوافع التعاون كثيرة وتصب في مصلحة الطرفين معا. ولعل هذا ما جعل الرئيس الفلبيني الحالي رودريجو دوتيرتي يقوم في سبتمبر 2018 بأول زيارة لزعيم فلبيني إلى إسرائيل منذ إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الدولتين عام 1957.

لم يكن صحيحا ما تردد وقتها من أن دوتيرتي جاء إلى إسرائيل لتفقد أحوال نحو 100 ألف فلبيني يعملون في إسرائيل، منهم 30 ألفا في مجال التمريض، والتوقيع على اتفاقات تؤدي إلى تحسين ظروفهم، وتقنين أوضاعهم، وزيادة مرتباتهم، وتخفيض الرسوم التي تفرضها مكاتب الاستقدام على عملية جلبهم وتشغيلهم، وتسهيل انتقالهم من خلال تدشين خط جوي مباشر بين مانيلا واللد. إذ سرعان ما اتضح الهدف الأصلي من وراء الزيارة النادرة، وذلك حينما لوحظ أن برنامج زيارة الضيف الفلبيني اشتمل على تفقد معارض للأسلحة والمعدات العسكرية الإسرائيلية الحديثة المتطورة، وإبرام صفقات عسكرية وأمنية عدة، إضافة إلى التوقيع رسميا على اتفاقية تحصل بموجبها شركة "راتيو أويل إكسبلوريشن" الإسرائيلية المملوكة للدولة على رخصة للتنقيب عن النفط في الفلبين علما بأن المفاوضات حول هذا الترخيص كانت قد بدأت في مارس 2018.

ولعل ما عزز فرضية أن زيارة ديتروتي لإسرائيل تخفي وراءها رغبة فلبينية قوية لتعزيز علاقات مانيلا بتل أبيب على مختلف الصعد ولا سيما على صعيد الحصول على الأسلحة والمعدات الأمنية الإسرائيلية المتطورة، والتعاون في مجال الطاقة، وتعزيز أوجه تبادل الأفواج السياحية، تقابلها رغبة إسرائيلية مشابهة لتقوية مصالحها في بلد آسيوي يحتل موقعا استراتيجيا ويسكنه نحو 100 مليون نسمة جلهم الأعظم من المسيحيين الكاثوليك ممن يمكن استمالتهم لزيارة المقدسات المسيحية في القدس وبيت لحم والناصرة، هو وصول ديتورتي على رأس وفد كبير ضم 400 شخص، بينهم وزير الدفاع وسبعة وزراء آخرون، وأكثر من 150 رجل أعمال وعشرة جنرالات.

وعلى الرغم من الاحتجاجات التي خيمت على الزيارة، خصوصا من قبل الذين انتقدوا دوتيرتي على خلفية تصريح سابق له شبه فيه حربه على مافيات المخدرات في بلاده بحملة هتلر ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فإن الزيارة حققت لتل أبيب نصرا سياسيا ودبلوماسيا في قلب آسيا، خصوصا أنها فشلت في تحقيق نصر مماثل في إندونيسيا وماليزيا بسبب ثقلهما الإسلامي، وإن لم تحقق لها أمنية عزيزة كانت تنتظرها من الزيارة وهي إعلان نقل مانيلا لسفارتها من تل أبيب إلى القدس. ويبدو أن دوتيرتي تجنب ذلك كي لا يثير بعض الدول العربية، خصوصا السعودية ودول الخليج التي تستضيف عمالة فلبينية ضخمة، وبالتالي تعد من أهم مصادر تحويلات العملة الصعبة.