عبدالله جمعة الحاج


شهدت الولايات المتحدة الأميركية في الأشهر القليلة الماضية صراعاً سياسياً مريراً بين «الديمقراطيين» من أعضاء الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ من جانب، ورئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، وهو رئيس «جمهوري» من جانب آخر في ما يشبه السباق المحموم حول كرسي الرئاسة في الانتخابات القادمة في نوفمبر 2020، بالإضافة إلى ما يشبه التمرين الرياضي على الديمقراطية، وذلك من خلال الدعوة التي قام بها «الديمقراطيون» لمحاكمة الرئيس تمهيداً لعزله من منصبه.
لقد تمحورت التهم التي وجهها «الديمقراطيون» إلى الرئيس حول موضوعين أساسيين، هما سوء استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونجرس.
وانبثق هذان الموضوعان من التهمة الأساسية، وهي القيام بالاتصال بالرئيس الأوكراني والطلب منه توجيه تهم إلى نجل مرشح الرئاسة من الحزب «الديمقراطي» جو بايدن، نائب الرئيس السابق تدخل في دائرة الفساد من حيث تعيينه في منصب كبير في إحدى الشركات العاملة في أوكرانيا بوسائل غير قانونية، وهي مسألة لو ثبتت صحتها تسيء إلى جو بايدن كمرشح رئاسي وتخدم دونالد ترامب في حملته لإعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة.
وبالتأكيد ما يهمنا كثيراً ليس تفاصيل هذه القضية أو تعقيداتها في الداخل الأميركي بقدر ما يهمنا معرفة تأثيرها على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الخليج العربي.
مع قرار تدشين محاكمة الرئيس يكون أعضاء الكونجرس من «الديمقراطيين» قد دخلوا في خطوات لها تداعياتها الملحوظة على كل من السياسات الداخلية والخارجية للبلاد.
وقد شهد كاتبكم تلك الفترة العصيبة في الداخل الأميركي وفي قلب الحدث في واشنطن، وقد خرج بملاحظة مهمة، وهي أن وسائل الإعلام في رصدها وتعليقها وتحليلاتها كانت تركز على الجانب المتعلق بالمعركة السياسية المحتدمة بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» للاحتفاظ أو باسترجاع كرسي الرئاسة.
لقد تواجد اهتمام ضئيل جداً بالمسائل الخارجية بما في ذلك السؤال الخطير المتعلق بتداعيات مثل هذا الأمر وما يمكن أن يتسبب فيه على الأمن القومي للولايات المتحدة وسلامة الجمهورية الأميركية وتماسكها.
ويعود السبب في طرحنا هذا أن محور المسألة في هذا الصراع هو الرغبة في إضعاف الرئيس في شخصه، ما يعني بالتالي إضعاف مؤسسة الرئاسة، لأن شخص الرئيس هو تجسيد كامل لمؤسسة الرئاسة برمتها.
لقد شهد العالم مسار المسألة إلى لحظة تبرئة الرئيس من التهم الموجهة إليه في مجلس الشيوخ، لكن ما وراء ذلك هو التأثيرات على أمور معينة تخص سياسات الولايات المتحدة تجاه حلفائها وأعدائها على حد سواء، من زاوية أن المحاكمة ربما قد يكون لها تأثير أكثر استمرارية على عملية صنع السياسة الخارجية ذاتها، فالكشف عن مكالمات الرئيس الأميركي ومكاتباته الشخصية - الرسمية مع قادة الدول الأخرى يؤسس لسابقة مزعجة ليس للرئيس الأميركي ذاته للتحدث مع القادة الآخرين بحرية وأريحية ووضوح، لكن لزعماء العالم الآخرين الذين سيكونون حذرين جداً في أحاديثهم ومكاتباتهم مستقبلاً.
ويعود السبب في القطعة الأخيرة إلى أن معظم قادة وزعماء العالم يفضلون السرية والكتمان في أحاديثهم مع القادة الآخرين لأن مثل هذه الأحاديث غالباً ما تدخل فيها أمور تتعلق بالأمن الوطني للدول على الصعد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
ومثل هذه المسائل، على الأقل في مراحل معينة، لا بد وأن تناط بالسرية التامة والثقة بأن لا تصل إلى الدول الأخرى، خاصة المعادية منها، لأنه كثيراً ما تدخل في سياقها أجهزة أمنية وعسكرية واستراتيجية تمس الأمن الوطني للدول.
وبالنسبة لدول الخليج العربي، فإن تداعيات المسألة على صعيد الداخل الأميركي ربما لا تكون لها فيه ناقة ولا جمل، لكن على ضوء التقييد الذي فرضه الكونجرس على سلطة الرئيس تجاه التعامل مع إيران قد يثير شيئاً من القلق، بالإضافة إلى ما فعلته تداعيات المحاكمة ذاتها.
إن النتائج التي تسببت فيها المحاكمة وقرار الكونجرس الأخير بشأن إيران سرعت من عملية كانت جارية أصلاً تتعلق بكون أن القوة والهيبة التي تمتلكها الولايات المتحدة في المنطقة مرتبطة بتحالفات وشراكات دولها بالإدارة الأميركية ممثلة في شخص الرئيس، وعندما يتم إضعاف شخصيته في الداخل، لا بد وأن ينعكس ذلك على علاقات بلاده مع الخارج.
ومن المعلوم جداً بهذا الشأن أن العديد من القوى، سواء من داخل المنطقة أو خارجها، تراقب مسار قوة وهيبة الولايات المتحدة فيها، وبعضها ينظر بتعمد إلى الاستفادة من مثل هذا الضعف للإساءة إلى مصالحها وعلاقاتها مع دول الخليج العربي، وهذا شأن لا بد وأن ينتبه له الساسة في الولايات المتحدة بعين الحذر الشديد لأنه يسيء إلى مصالح بلادهم أشد الإساءة.