د. عبدالرحمن الجديع

عانى الوطن العربي الكبير من أهوال الحروب والدمار، وأدى ذلك إلى عواقب ترتّبت على عدم استتباب الأمن والاستقرار في هذه المنطقة المهمة من العالم. كما أسهمت ظاهرة الاستعمار، والهيمنة على بعض الدول العربية في إشعال الفتن والتقسيم، وبروز الصراعات واستمرار النزعات عبر سياسة "فرّق تسدْ" وغيرها من أدوات الاستعمار، وحيله للسيطرة على مقدّرات شعوب المنطقة العربية‪ ‬

قيام عصبة الأمم كأول منظمة دولية، مثّل في وقته أهم المحاولات الدولية الجادة في مجال تنظيم الصراعات القائمة، وتكريس استتباب الأمن والسلم العالميين، في ضوء النتائج المريرة التي سبّبتها الحرب العالمية الأولى.

ومع أهمية عصبة الأمم، إلا أنها لم تصمد أمام السياسات العدوانية وأنانية التعصب الفكري والأيديولوجي والقومي في الساحة الأوروبية، مما عجّل في انهيارها، مع أنّ العصبة استجابت لمطامع وأهداف الدول الكبرى، خصوصاً في ابتكارها لنظام الانتداب، وإخضاع معظم الدول العربية للهيمنة والاستعمار الغربي.

لقد تجسّد هذا الواقع في اتفاقية سايكس- بيكو لعام 1916، حيث كشفت تواطؤ الدول الغربية على فرض نفوذها على الدول العربية واقتسامها، إذ خضع كل من العراق وفلسطين وبعض الدول الخليجية ومصر للانتداب البريطاني، وهو ما نتج عنه وعد بلفور المشؤوم الذي زعم إيجاد وطن قومي لليهود في أرض فلسطين العربية، والتي لا تزال تبعاته ماثلة باستمرار الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، بالرغم من قرارات الأمم المتحدة التي حلّت محل عصبة الأمم، مؤكدة في ميثاقها على ضرورة احترام حريات الشعوب، والتمسك بمبدأ الدفاع عن النفس، وعلى حق تقرير المصير والاتفاقيات التي أبرمت مع الفلسطينيين في أوسلو عام 1993. لكنّ الكيان الصهيوني العنصري لايزال يرفض قرارات الشرعية الدولية، ويمارس شتى أنواع التعسف والعدوان ضد شعب أعزل يكابد نيران الاحتلال أمام مرأى العالم المتحضر‪ .‬

لم تسلم الدول العربية في المغرب العربي، كذلك، من هيمنة الاستعمار؛ فقد سيطرت فرنسا على تونس والجزائر والمغرب، كما احتلت إسبانيا جزءاً من أقاليم الساحل المغربي.

ومع تحرر هذه الشعوب من قبضة الاستعمار، الذي ارتكب أفظع الجرائم الإنسانية، خصوصاً في الجزائر التي دافعت ببسالة عن سيادتها، إلا أنّ العالم العربي ما زال يشهد الكثير من المآسي والنزعات العبثية.

‪ ‬وفي ظل أحداث ما سمي بـ"الربيع العربي" وبروز منظمات إرهابية عنيفة ومتوحّشة، مثل داعش وأخواتها من الجماعات "الإسلامية" المتطرفة الأخرى بدعم وتمويل من قطر، والتي زرعت الفتنة، وزعزعت الأمن وأسهمت في دمار سوريا, وكذلك الحرب التي تمزق ليبيا وتنشر الرعب والدمار فيها، فقد آذن ذلك كله بانبثاق مرحلة جديدة لتدخّل دول أجنبية، مثل تركيا وغيرها لبسط سيطرتها، ومدّ نفوذها على الوطن العربي‪.‬

وفي المغرب، ومنذ انسحاب إسبانيا من الأقاليم المغربية شمالاً وجنوباً، عمل المغرب على ترسيخ السيادة الوطنية والحفاظ على الوحدة الترابية إلا أنّ الصراعات في المنطقة وتضارب المصالح أسهمت في خلق ما يسمى بـ"جبهة البوليساريو"، وهي حركة انفصالية متمرّدة على الوضع القائم في جنوب المغرب، كما أنّ هذه الحركة كانت مسيّرة من قبل بعض الدول التي لا تزال تعيش في ذهنية الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهي ذهنية عفى عليها الزمن، لا سيما في ظلال التحولات التي ترفض الانفصال وسياسة تفتيت الأوطان وشرذمة الأمة، ولا تواكب الواقع السياسي المعاصر‪ .‬

إنّ الإصرار على حلول غير واقعية لا تعكس الإرادة الشعبية، وتطلعات ساكني المنطقة هو أمر عبثي يطيل من أمد معاناة الناس في هذه المناطق المغربية، ويسهم في بعثرة الجهود، لا سيما في ظل قيام هذه المجموعة بتوقيع اتفاق عام 1991 في الأمم المتحدة لوضع حد للمواجهة العسكرية.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ ساكني منطقة الصحراء لا يمثلون إقليمية عرقية أو مذهبية، إنما هم جزء لا يتجزأ من نسيج الشعب المغربي، وأنّ المقاربة المغاربية لوضع الصحراء مقاربة تتسم بالحكمة والاتزان، وتعكس وعياً حضارياً في إطار جهود المغرب الواضحة والصادقة في تعزيز التقارب بين دول وشعوب أفريقيا ككل.

وفي ضوء ذلك، يمكن القول: إنّ الدبلوماسية المغربية وجهودها الفاعلة تجلت في دينامكية تتسق مع المستجدات والظروف التي يشهدها عالمنا اليوم، من حيث الاهتمام بالتنمية المستدامة والبناء والازدهار، وبالتالي فإنّ طي صفحة الخلافات أمر يتواءم مع الرؤية الجيوإستراتيجية، ويتوافق مع المسارات الجديدة التي تؤكد على القواسم المشتركة التي تجمع بين الدول المتجاورة من قيم ومبادئ وتقاليد وتطلعات ترفع مداميك التعامل البنّاء، وتتفق مع الذهنية الجديدة التي تولي اهتمامها لتلبية حاجات المواطن، ومواجهة الأزمات الاقتصادية، وتدعم جهود السلام والتنمية، وتنبذ الحرب والدمار‪ .‬