هيمن التوجه القومي على الكثير من متعلمي ومثقفي الكويت في بدايات القرن العشرين، وبخاصة بعد فشل قيام الدولة العربية وإشهار اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وغير ذلك، وكان تطور هذا الفكر في تلك المرحلة بين هذه الفئة مرتبطاً إلى حد كبير بأوضاع العراق، وصراعه مع الإنكليز وبخاصة في عهد الملك غازي 1933 - 1939، الذي أيد بدوره «كتلة الشباب الوطني» في الكويت، في مسعاه نحو تأسيس المجلس التشريعي.
ويورد أستاذ العلوم السياسية د. غانم النجار أربعة أسباب رئيسة، تحدثنا عنها في مقال سابق، مكنت العراق الملكي من التأثير في النخبة القومية، إذ مثّل العراق آنذاك في الكويت نموذجًا للتطور، كما كان معظم من تخرجوا في تلك الفترة كنخبة متعلمة قد أكملوا تعليمهم في العراق، كما كان التجار والأسرة الحاكمة يمتلكون بساتين كبيرة للتمر في البصرة وغيرها، وكان اعتماد الملاك الكويتيين كبيرًا على مردود محاصيل النخيل هناك، حيث كان يتم تصدير التمر للهند.
وأخيرًا، أدت الصحافة العراقية دورًا بارزًا ومؤثرًا في انتقاد نظام الحكم في الكويت، في حين كان الاقتصاد الكويتي في وضع مترد بسبب الأوضاع الدولية والحصار الاقتصادي الناجم عن الخلاف الكويتي السعودي.
وقد استقطب رحيل الملك غازي قلوب الشباب القومي والشعراء آنذاك، ومنهم شاعر الكويت «فهد العسكر» نفسه، الذي كان من بين العديد من مثقفي وأدباء المنطقة الخليجية في البصرة، فشارك في الحفل التأبيني الذي أقيم في المكتبة الوطنية بالبصرة، وألقيت فيه قصائد وخطب حماسية أشادت بالملك غازي ومواقفه الوطنية والقومية كانت من بينها قصيدة للشاعر فهد العسكر جاء في أحد أبياتها:
غازي إذا ما جئت فيصل في خلود
فخبّره بأننا لا نزال على العهود

(انظر كتاب عبدالله الحاتم «من هنا بدأت الكويت» ط. 1980، ص341، وكذلك كتاب د. مفيد الزبيدي «التيارات الفكرية في الخليج العربي» 1938-1971، بيروت 2000، ص176).
تضمن كتاب «شذرات بغدادية»، لدكتور خالد السعدون، كذلك فصلاً عن النشاط القومي في بغداد خلال الأعوام 1908 - 1914، أورد فيه الكثير من المعلومات المهمة، وقد لاحظ أحد الباحثين، يقول د. السعدون «إن النشاط القومي في بغداد سار بخطى بطيئة مقارنة بنظيره في البصرة».
وعلل ذلك «بعدم ظهور شخصية بغدادية قوية تتولى قيادة ذلك النشاط مماثلة لشخصية السيد طالب النقيب التي تمحور حولها النشاط القومي في البصرة»، وربما كان من الصعب ظهور شخص كالنقيب بسهولة! يقول «الزركلي» في «الأعلام» إن طالب النقيب «كان جريئًا، مغامرًا، رقيق الحديث، سريع الغضب، محبًا للانتقام، كريمًا مفرطًا».
ويقول عنه الباحث العراقي «مير بصري» : «شخصية متناقضة غريبة لمعت في العقدين الأولين من القرن العشرين، وفرضت زعامتها حينًا على البصرة خصوصًا والعراق عمومًا، ثم لم تلبث أن أفلت وغابت، كان السيد طالب النقيب بعيد المطامح، كثير المطامع. برز في مسقط رأسه البصرة وعارض الاتحاديين وهم في أوج مجدهم بعد إعلان الدستور التركي سنة 1908، فطالب بالإصلاح واللامركزية».
ثم تصالح مع الدولة، لكن الحرب العامة لم تلبث أن نشبت في سنة 1914، فمضى إلى الكويت، واعتقله الإنكليز ونفوه إلى جزيرة سيلان، ثم سمحوا له بالشخوص الى مصر، وعاد الى بغداد بعد الهدنة وطمح الى حكم العراق ملكًا أو أميرًا في ظل الانتداب البريطاني، فلم يأمن الإنكليز جانبه، بل أبعدوه ثانية إلى سيلان، وعاد الى البصرة بعد ذلك، وقد أفل نجمه، فاعتزل الحياة السياسية أو بالأحرى هي التي اعتزلته.
(أعلام الوطنية والقومية العربية، لندن، ص 245)
ولم يكتفِ القوميون بالعمل العلني في بغداد بل لجأ بعض الناشطين إلى العمل السري رغم أنهم كانوا من العاملين في الدولة والدوائر الحكومية العثمانية وبالذات العسكرية منها.
وقد سجل القنصل البريطاني في بغداد في يناير 1912 روايات متواترة في المدينة عن تأسيس جمعية قومية سرية تضم في عضويتها أكثر من مئة ضابط عربي من رتب مختلفة، وذكر أن هدف تلك الجمعية طرد الأتراك وإقامة حكومة ذاتية وتعزيز الروح القومية والإسلامية».
ولاحظ القنصل الأميركي تناقض مشاعر عرب العراق وحيرتهم، فالأوساط العربية لا تحمل احتراماً صادقاً للحكومة، «بيد أنهم يشعرون في الوقت نفسه بعدم قدرة بلدهم على الاستقلال الكامل مما يجعلهم مضطرين للمفاضلة بين حكومة تركية وحكومة أجنبية أخرى بديلة عنها».
وروى القنصل الأمريكي أن عرب بغداد «ميالون لتفضيل الحكومة التركية لعدم يقينهم بما سيكون عليه حالهم تحت ظل حكومة أخرى».
ومضى القنصل للقول إن الانطباعات التي كونها في بغداد تتيح له القول إن «بريطانيا لو أقدمت على احتلال العراق لما واجهت مقاومة تذكر».
ويعتبر د. السعدون ذلك التوقع تفاؤلاً مسرفًا، «كذب عملياً مسار الأحداث في العراق بعد حوالي سنتين-1915- حين ووجهت القوات البريطانية الزاحفة بمقاومة باسلة من أغلب سكان العراق».
والحقيقة أن مشاعر التضاد والتصادم العراقية حول السبيل الذي كان ينبغي اختياره يومذاك تجد ما يماثلها في عراق اليوم ومنذ سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003، فالعراق لا يزال يعايش انقسام مشاعره وميوله، ربما بسبب ضغوط دول الجوار والمخاوف الطائفية والشك في أهداف الدول الكبرى.
وكان القنصل الأمريكي في بغداد مهتمًا مثل زميله البريطاني بالنشاط القومي العربي فكتب في 1913، «إن عرب العراق مشاركون في حركة عامة هدفها الحصول على استقلال ذاتي أكبر إن لم يكن استقلالاً تامًا عن الحكومة العثمانية». ومما ذكره القنصل، يقول د. السعدون «وجود جمعية سرية عربية تدعى (جمعية اللامركزية) مقرها الرئيس في مصر ولها فروع في بغداد والبصرة والموصل، وهي تهدف إلى إقامة مملكة عربية عاصمتها دمشق».
ومما قاله القنصل الأمريكي: «إن وكيل ابن رشيد شيخ حائل في بغداد زارني في القنصلية قبل أسبوعين، وبدأ في هذه المرة يتكلم بثقة خلاف حاله في لقاء سابق لي معه، وجوهر كلامه هو إيمانه بقرب نهاية الإمبراطورية التركية لأن أدرنه سوف تسقط قريبًا، وسيجعل ذلك سقوط اسطنبول مسألة وقت فقط، وإذا سقطت العاصمة ستنهار الإمبراطورية كلها... وقال إن عرب ما بين النهرين لا يحبون الحكم التركي لأنه يجبي منهم سنويا ضريبة على غلة الأرض تتراوح بين خُمس وخمسي الحاصل. هو ظلم بالغ لأن العرب لا يحصلون على أي شيء من الحكومة مقابل دفع تلك الضريبة، وقد سألته عما إذا كان العرب سيفضلون الانضمام إلى إنكلترا، أضاف القنصل، ويقول إن وكيل ابن رشيد أجاب إنهم يفضلون الاستقلال».
كانت بين أبرز مطالب التيار القومي في العراق فرض اللغة العربية بدلاً من التركية في المدارس العامة، ويقول المؤلف: «ولم يعد باستطاعة الحكومة المركزية العثمانية تجاهل تلك الأنشطة المتزايدة في بغداد وبقية الولايات العربية، فاضطرت لتقديم شيء من التنازلات للعرب حين أصدرت وزارة الداخلية في نيسان (أبريل) 1913 تعميمًا يقضي بجعل اللغة العربية لغة للتعليم في مدارس الولايات التي يشكل العرب أكثر سكانها مع إبقاء تعليم اللغة التركية مادة إلزامية في المناهج الدراسية لتلك المدارس، كما قضى التعميم بوجوب السماح باستخدام اللغة العربية في المحاكم والدوائر الحكومية، ولكن ذلك التنازل لم يكن كافيا من وجهة نظر بعض القوميين البغداديين. إذ طالبت جريدة (المصباح) البغدادية بوجوب إعلان اللغة العربية لغة رسمية وحيدة في الولاية».
(شذرات، ص 198).
كان للحكومة العثمانية صحيفة في العراق هي «جريدة الزهور» وفي أبريل 1913، يقول د. السعدون، أدانت الجريدة في افتتاحيتها فكرة اللامركزية التي يطالب بها القوميون العرب ويرفضها العثمانيون، وبنت صحيفة الزهور إدانتها، يضيف د. السعدون «على زعم مناقضة اللامركزية لمبادئ الإسلام التي تحث على الوحدة، فتدعو اللامركزية الى تفكيك الدولة الإسلامية، فضلا عن أن سكان العراق - في رأيها - أجهل من أن يحكموا أنفسهم، ولأن الاستعانة بمستشارين أجانب عند تطبيق اللامركزية ستزيد من التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، وختمت «الزهور» مرافعتها بالقول إن اللامركزية مشروع يروج له الأوربيون بهدف توسيع سيطرتهم على المنطقة». ويلاحظ الباحث أنه لم يرد في المصادر المتاحة ما يدل على نشاط قومي في بغداد خلال شهور سنة 1914 التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى، ويضيف أن هذا يشير إلى «حدوث انحسار في مد التيار القومي العربي، يجد تعليله في تقوية مركز الحكومة الاتحادية»، وكان الجميع على مبعدة بضع سنوات من زوال الدولة العثمانية.