"ترند"، الكلمة التي كانت تعني في الإنكليزية الوسيطة، انحرافاً أو استدارة أو جرياناً، أخذت كغيرها معاني أخرى في الأزمنة الحديثة. فبدلاً من الصورة المستوحاة من الطبيعة، المتعلقة بحركة المجاري المائية، أصبحت الكلمة لصيقة بإيديولوجيا بعينها للرأسمالية. الترند وصف لحركة الأسهم الصاعدة والهابطة في البورصات، موجات الشراء والبيع الجماعي. الصلة بالطبيعة ليست وليدة الصدفة، بل متعمدة وواعية جداً، فأصحاب نظرية "اليد الخفية" كانوا يرون في السوق نظاماً طبيعياً، وتخضع حركته لقوانينه الذاتية، قواعد منطقية ومن الممكن قياسها بالتأكيد. وفي مجال الثقافة الجماهيرية، أضحت الكلمة شعاراً للاستهلاك، مرادفة للطراز الشائع والأكثر مبيعاً والتعلق الهوسي، ببساطة تعني "على الموضة" أو "مواكبة للعصر". في أقسام السياسة في الجامعات ومؤسسات أبحاث التسويق واستطلاع الرأي، انشغل الجميع بقياس الترند، أو ما يطلق عليه أحياناً، توجهات الرأي العام. بين كل تلك الطرق لفهم الكلمة، بقيت مرجعيتها الطبيعية هي العامل المشترك، أي اليقين في إمكانية رصدها والتنبؤ بها، والأهم التحكم فيها وتوجيهها.
في عالم شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح الترند هو العملة الرئيسية وربما الوحيدة، المؤسسات الوسيطة لم تعد موجودة كما في الماضي، تلك التي تصمم الموضة المقبلة وتهندس رسالتها الدعائية. يصنع المستخدمون الترند بأنفسهم، فورة قصيرة ومكثفة، تستمر من يومين إلى أسبوع على الأكثر. هكذا يقوم المستهلكون بالإنتاج، كل مستخدم للشبكة هو صانع محتوى بشكل أو بآخر. تحل اللوغاريتمات محل قوانين الطبيعة، مصفوفات خفية لتصعيد الفورات المفاجأة. اكتشافها مبكراً وتكثيفها وتوسيع قواعدها، عملية انتخاب "طبيعي" مرقمنة وشبه فورية، المحتوي "الأصلح" يصبح مرئياً أكثر من غيره، ويتم تدويره على أوسع نطاق في ظرف ساعات، أما المحتوى غير الجماهيري فسرعان ما يذوي ويموت.
جينيالوجيا الكلمة حكمت عليها بالوصم مسبقاً. الفيلسوف الكوري الجنوبي، بيونغ تشول هان، يصف الآلية التي تحكم حركة الترند بالسرب الحشري، حركة آلية وغير عاقلة، تليق بما يطلق عليه "المجتمع المجهد"، مجتمع يُستنزف أفراده بانخراطهم المستمر في فيض المعلومات الفائق، وفوران الشبكات موجة بعد أخرى، إنتاجا واستهلاكاً في الوقت ذاته. دوامة مكثفة من المشاعر المتناقضة، خاطفة ومتقلبة ومنهكة بكل تأكيد. في الجانب الآخر، هناك من يرى في الترند تحرراً من سلطة صنّاع الرأي العام التقليديين، أي وسائل الإعلام والسلطة السياسية وخبراء التسويق، أي شقلبة ديمقراطية للعملية رأساً على عقب. الترند فلترة جماهيرية للسيل اللانهائي من الأخبار. تلهث الميديا لمواكبة ما يحدث في الشبكة، تُحدد الأولويات هناك، ويتبعها الجميع بعدها، وليس العكس. عناوين الأخبار لم تعد تصنعها بيانات الساسة أو تحليلات الخبراء، بل مقاطع الفيديو المسجلة بالهواتف الجوالة، وشهادات "مي تو" المجهّلة، ومستخدمون لا يملكون منصة سوى حساباتهم الخاصة في الشبكات الاجتماعية.
فيديو "سيدة القطار" يتصدر قائمة الترند في مصر منذ أيام. المشهد المسجل لمحصل قطار وهو يهين مجنداً لا يحمل تذكرة، يثير الغضب، وتكتمل الدراما بتدخل إحدى المسافرات للدفاع عنه ودفع تعريفة الرحلة. المشهد معقد ومربك لوهلة، سلطة الدولة في مواجهة نفسها، يقوم المحصل بوظيفته لكنه يتمادى فيها. رُتبة المجند، شديدة التدني في المؤسسة العسكرية، تشجعه على إساءة معاملته. والجندي ارتكب مخالفة بالطبع، لكن إهانته ليست مقبولة، أو على الأقل ليس من المدنيين أو خارج وحدته. تعيد سيدة القطار التوازن إلى المشهد المضطرب، تضحيتها المالية تعني إنقاذ الجندي من مغبة تسليمه للشرطة العسكرية. لكن، في النهاية، يظل سداد الدولة حقها هو الحل. البطولة الفردية تتواطأ وتكشف في الوقت نفسه، لماذا لا يستطيع المجند دفع قيمة تذكرة. كم يتقاضى في سنين تجنيده الإجباري؟ ولماذا يتجرأ عليه المحصل إلى هذا الحد؟ ومن يذكر البائع الجوّال الذي أجبر على القفز من القطار وقتل تحت عجلاته فقط لأنه لم يمتلك ثمن تذكرة؟
لكن الترند لا يملكه أحد. ووسائل الإعلام والسلطة تخطفان الموجة. شحنة الغضب التي كان لها أن توجه ضد السلطة، تتحول في صالحها. يعاقب المحصل إدارياً. التكريمات الرسمية وهدايا القطاع الخاص تنهال على سيدة القطار، ولأيام متوالية تصبح الضيفة الأولى في برامج التلفاز. المؤسسة العسكرية، وبعد قليل من التردد، تقفز لتكريم الجندي أيضاً، من دون الإفصاح عن سبب يبرر ذلك. موجة مضادة تنطلق في الشبكة، حملة سخرية لاذعة تتركز على ردود أفعال الدولة وإعلامها. المعارضون للتريند يتورطون فيه بشكل معكوس. ومن لم يطاولهم المد، سحبهم الجزر، لكن ككل موجة أخرى يطمئن الجميع أنها ستُنسى بعد أيام.
لكن الترند ليس سوى عرضٍ، عرضٍ لحالة العجز شبه الكامل، والخواء، لموت السياسة بكل صورها ولنزع أي إمكانية للفعل من يد جمهور مقموع ووسائل إعلام خائفة ومدجنة وإدارة مدنية صورية. يبقى التريند هكذا، كعلامة وحيدة على الحياة، علامة زائفة بالطبع، لكنها تظل علامة لليأس كما هي علامة أمل، أو حالة بين الإثنتين. تدريب على الفعل، أو على مجرد تخيله. حافز للذاكرة وللنسيان الذي لا مفر منه، حالة من الإنكار الهوسي، إنكار لواقع فرض علينا ولا نريد الاستسلام له.
التعليقات