كثيراً ما وقف حمد بن جاسم وزير الخارجية الأسبق ليدافع عن مواقف قطر ويؤكِّد شرعية سياساتها وتدخلاتها في دول وقضايا كثيرة، وكان يرد على المنتقدين لهذا الدور قياساً بحجم قطر الجغرافي؛ بأن الجغرافيا السياسية لم تعد ملتزمة بالوعي التقليدي المرتبط بالحجم والمساحة، ولم يكن يمر برنامج أو لقاء في قناة الجزيرة أو غيرها من الأدوات التي تناصر قطر إلا وتمرر فيه هذه الرسالة بشكل أو بآخر، بل إنه يتم الاستشهاد دائماً وعلى سبيل القياس بمساحة إسرائيل وتأثيرها في منطقة الشرق الأوسط كمثال على الحجم والتأثير في الجغرافيا السياسية.

اليوم تستعيد قناة الجزيرة أو الحكومة القطرية التفسير التقليدي للجغرافيا السياسية في خطابها الإعلامي - مرغمة ومراهنة على ذاكرة السمكة في العقل العربي - فيما يتعلَّق بدول الجوار ولا يكاد برنامج أو لقاء يناقش الاتفاق الإسرائيلي - الإماراتي أو البحريني إلا ويتناول عدم الجوار الجغرافي بين هذه الدول كحجة قوية لعدم ضرورة أي اتفاق سلام بينهما!

بعيدًا عن مماحكات الإعلام -المضطرب الهوية - الذي تمارسه الحكومة القطرية من خلال قناة الجزيرة، لا بد من التأكيد أن المنطقة العربية قد تغيَّرت بعد أحداث ما يُسمى الربيع العربي، بل إن مصالح الأطراف العربية قد انقسمت وتخالفت فلم تعد رؤية الخليج العربي لمصالحه تتطابق مع رؤية دول المغرب العربي أو العراق أو بلاد الشام، فلكل جزء من الأقاليم العربية ظروفه ومشاكله وتحدياته، بل ربما لا أبالغ حين أقول إن الخلافات العربية الآن خلافات تتعلَّق بالوجود والأمن لكل دولة أو إقليم عربي، خصوصاً في الدول التي دبت فيها الفوضى وتحوَّلت أولوياتها من الخطاب العربي الجماعي إلى الخطاب المرتكز على أولويات الدولة وإعادة بناءها!

لا يمكن أن نتجاوز حقيقة أن دولاً عديدة في المنطقة العربية كانت تتكئ على جدار القضية الفلسطينية عقوداً لتسند ضعفها وعجزها عن بناء تنمية حقيقية، وكان أنين الحق المسلوب في فلسطين يمنحها الضوء الأخضر لتخرس كل الأصوات إنصاتاً وخشوعاً، لكن أنين المنصتين قد جاوز المدى وكسر حاجز الصوت. في السياسة هناك مشاريع كبرى قد تبدأ حلماً لكن يكملها أجيال متعاقبة، وهناك أحلاما تحظى بفترة تاريخية استثنائية، فبعد تعاقب سقوط أحجار الدومينو ظهرت نافذة أمل كبير للتعجيل بحلمين كامنين في المنطقة هما الحلم الإيراني والتركي، وللأسف أن هناك من أبناء جلدتنا وشركائنا في الوطن والانتماء والدم من ركب عربتهما واندفع لتحقيق حلميهما، فالإخوان المتأسلمين والمليشيات الطائفية الشيعية كانا ولا يزالان حصان طروادة للتغلغل في النسيج العربي والخليجي، حتى باتت الدول الخليجية ترى في خطرهما وخطر داعميهما أولوية مقابل أي خطر كامن. هذه التحولات فرضت واقعاً جديداً على الحكومات الخليجية وحوَّلت البوصلة إلى التفكير بجدية في بناء الأمن الخليجي في المنطقة وقطع الطريق على المزايدين.

من العجيب أن يُثار من قبل الفلسطينيين تحديداً مصطلح الانقسام العربي والمزايدة على القرار السيادي لبعض دول الخليج، فالفلسطينيون أنفسهم أول من أحدث الانقسام داخل قضيتهم حين اختاروا أن يتقاسموا الولاء داخل التراب المحتل أولاً، وأن يكونوا بيادق لمشاريع إقليمية خارج حسابات القضية ثانياً، ما دفع كثيراً من الأطراف العربية سياسياً وشعبياً لفقد الثقة في جدية الفلسطينيين أنفسهم تجاه قضيتهم والنظر باتجاهات أخرى بعد أن أصبحت القضية تُباع وتُشترى في مزاد المشاريع الإقليمية تارة في الحضن الإيراني وأخرى في التركي!

إيران وتركيا - وقد تكشفت أهدافهما - كانا يراهنان على استسلام الدول العربية والخليجية تحديداً لقدر مشاريعهم وأن الزمن كفيل بتحقيق الأهداف الإستراتيجية لمنظريهم متذرِّعين بضيق مساحة الخيارات في المنطقة ووجود بعض الدعم المحلي الخائن أو المخدوع وكذلك الدولي، معتقدين أن دول المنطقة آيلة للسقوط وثرواتها مباحة للنهب. لكن لم يتوقّع أحد منهما أن الإرث السياسي والمكتسبات التنموية لهذه الدول تمنحها القدرة على إجهاض كل مشاريع الانقضاض الحالمة وسحب ورقة الجوكر من أيدي المقامرين بأمن المنطقة!

المؤلم أن دول الخليج رغم أنها لم تقم علاقات مع إسرائيل ودفعت من قوت أبنائها الغالي والنفيس من أجل القضية الفلسطينية لم تسلم ولعقود من الشتائم والتشكيك في مواقفها، بل ونسج القصص والحكايا حول التآمر الخليجي على القضية وأهلها في حين أن دولة الخلافة وعاصمة الباب العالي إسطنبول تملك علاقة تمتد إلى 71 عاماً مع إسرائيل وحجم تبادل تجاري يتجاوز 6 مليارات دولار أمريكي وشراكات إستراتيجية لصناعات عسكرية وتطوير أسلحة بملايين الدولارات، ورغم أن التبرير المعلَّب دائماً أن الخليفة أردوغان ورث هذه التركة من العلاقات القديمة ولمصالح إستراتيجية لا يملك تحويل مسارها، إلا أن الأتباع وللأسف يحفلون بالإجراءات الشكلية الخادعة والتصريحات الإعلامية القابلة للاستخدام العربي والحزبي ولا يتساءلون عن النمو وتقوية هذه العلاقات ومن يقف وراءها، أما على المستوى الإيراني فإن الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرمته المدرسة الأوبامية مع الملالي كشف أيضاً عن علاقات واتصالات بكل الأطراف بلا استثناء بعيداً عن خطاب العنتريات المعد للاستهلاك العربي!

أخيراً.. لم تتأخر دول الخليج ومنها الإمارات والبحرين في دعم القضية الفلسطينية وشواهد التاريخ أوضح من أن تُوضَّح ولن تتخلَّى عن القضية الفلسطينية العادلة وحقوق أبنائها حتى ولو أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وسنرى أيضاً -وهو المهم في نظري- كيف تتعاطى إسرائيل مع هذه الفرصة؟ وكيف تبني جسور السلام الحقيقية بعيداً عن ثقافة النفوذ والوصايات التي ابُتليت بها المنطقة، وعلى إسرائيل أن تدرك أن السلام والتطبيع ليس أمرًا سهلاً، وليس الثمن له دائماً بنفس المكيال مع كل طرف، ويجب أن يدرك أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن القوة وحدها لا تجلب السلام والتاريخ شاهد!