التعميم آفة الرأي ومقتله، ولذا، ليس منطقياً القول إن جميع المعلقين العرب الذين تناولوا الانتخابات الإميركية، كانوا منحازين لوجهة نظر محددة، أو يفتقدون المعلومات والتحليل المنطقي؛ إلا أن هنالك قطاعاً واسعاً يدعي ما لا يملك، ويتحدث في تفاصيل الشأن الإميركي وكأنه يعي تعقيدات المجتمع والحزبين الجمهوري والديموقراطي، بل، وكأنهم يحوزون أسرار المكتب البيضوي!

التأني والعقلانية
التحليل السياسي، له أدواته، مناهجه، وليس مجرد إبداء وجهة نظر رغبوية، عاطفية، مبنية على التمنيات أكثر من ركونها إلى المعلومات والحقائق.

أيضاً، العقل الهادئ، الذي يربط بين الوقائع، الذي يحيد انحيازاته الذاتية قدر الإمكان، وينظر إلى ما بعد اللحظة، هو وحده القادر على الوصول إلى نتائج أكثر "منطقية"، وأقرب لـ"التحقق". فيما الذي نلحظه لدى كثير من المعلقين العرب، أنهم ينطلقون مع عقلٍ قطعيٍ، رافضٍ لوجهات النظر المغايرة، يقيني حد الفجاجة، بل، لا يضع احتمالات الخطأ في حساباته، وكأن الحقيقة رهن بنانه!

ما يمارسه كثيرٌ من الكتاب والمعلقين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو أشبه بما يمكن تسميته "الهبة الشعبية" لنصرة طرف على آخر، وكأنهم في صراع بين قبيلتين أو عائلتين، ولذا، المنطق العشائري يتطلب الانتصار لابن القبيلة، ظالماً كان أو مظلوما.

أمرٌ آخر، هو رمي المخالفين في الرأي بـ"الجهل" أو "عدم الوطنية"، وأحياناً وصفهم بأنهم بقايا "اليسار" أو متأثرين بـ"الإسلام السياسي"، لا لشيء إلا أنهم لا يوافقونهم في رؤيتهم، أو يمتلكون موقفاً سياسياً وثقافياً خاصاً بهم. فيما من هم في الضفة الأخرى، يصفون المعارضين لهم بـ"الرجعية" و"اليمينية".

الناخب المحلي
الإنتخابات التي تقدم فيها الرئيس الإميركي المنتخب جو بايدن، على سلفه دونالد ترمب، هي انتخابات لرئاسة الولايات المتحدة الإميركية، وبالتالي هي شأن إمريكي خالص، داخلي، يهم الإميركيين بالدرجة الأولى، وهم يتأثرون في التصويت بما يقدمه المرشح من برنامج عمل، يستند لرؤيته حول: الاقتصاد، البطالة، فرص العمل، الصحة.. وسواها من الملفات المعيشية التي تعني الفرد في الولايات المتحدة.

العائلات الإميركية لن تصوت لبايدن أو ترامب بناء على موقفه من "الربيع العربي" أو "حزب الله" أو "داعش" أو "الإخوان المسلمين"، ولن تؤيده لكونه مسانداً للاتفاق النووي مع إيران أو معارضاً له؛ كل هذه قضايا هامشية جداً لا تعني الإميركيين، وتهم شريحة محددة ونخبوية منهم، وحسب.

العلاقة مع المؤسسات
الرئيسان بايدن أو ترمب، لن يتحركا في سياستهما الخارجية وفق ما يتمناه المعلقون والناشطون العرب، بل، وفقاً لما يعتقدان أنه يحقق المصالح الإميركية قبل كل شيء.

حتى في سياسته الخارجية، فإن الرئيس الإميركي محكوم باعتبارات عدة، وتعقيدات قانونية ودبلوماسية واقتصادية وأمنية وحقوقية. الولايات المتحدة دولة مؤسسات، لا يحكمها شخص الرئيس، مهما كانت لديه من صلاحيات، ولذا، فإن العلاقة السليمة مع واشنطن، يجب أن لا تقتصر على شخص الرئيس الذي يتغير كل أريع سنوات، بل يجب أن تكون مع المؤسسات: الكونغرس بغرفتيه، البنتاغون، وزارة الخارجية، وبقية الهيئات والوزارات الحكومية ذات الصلة، فضلاً عن المجتمع المدني، ومراكز الدراسات والفكر ووسائل الإعلام، والأكاديميات، ومعاهد التقنية والذكاء الاصطناعي، والشركات العملاقة، دون نسيان النخب المؤثرة ثقافياً وفنياً.. بعبارة مختصرة: أن تبنى العلاقات مع مروحة واسعة من المؤسسات، كي تتصف بالقوة والديمومة والتأثير، وأن لا يتم التعويل على شخص الرئيس أو حزبه وفقط.

ماذا بعد ترمب؟
الآن، وبعد أن خسر الرئيس دونالد ترامب، السباق الانتخابي، ماذا سيكون عليه الحال؟
ناشر ورئيس تحرير صحيفة "إيلاف" عثمان العمير، غرد في حسابه عبر "تويتر": "انتهى القول، فازت اميركا تاريخاً وعقلاً وشعباً".

المدير العام السابق لقناة "العربية" عبد الرحمن الراشد، وفي 7 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، غرد قائلاً: "لا توجد مؤامرة ولا مؤسسات عميقة، بل العكس، أغلبية قضاة المحكمة العليا محافظين ومحسوبين على حزب ترامب".

العمير والراشد، من الصحافيين السعوديين القلائل المتابعين منذ سنوات طويلة للشأن الإميركي، وهما أيضاً شخصيتان وطنيتان، لا يمكن لأحد أن يطعن في مواقفهما الداعمة للاستقرار والأمن والإصلاح في المنطقة، والرافضة للعنف و"الإسلام السياسي"؛ ومع هذا لم يتعاملا مع التغيرات الحاصلة في البيت الأبيض بريبة أو قلق، لأنهما يعيان أن السعودية وبقية دول الخليج، لديها القدرة على التعامل بدبلوماسية وفاعلية، وأن الرياض تستطيع حفظ مصالها القومية، بغض النظر عن السياسة التي ينتهجها الرئيس الإميركي الجديد، والذي لن تدخل الرياض في عداء أو خصومة معه، بل إن الدبلوماسية السعودية دائماً ما كانت على درجة من المرونة والقدرة على خلق نقاط التلاقي مع واشنطن، لأن الرياض تعرف مكامن قوتها ومكانتها سواء في الشرق الأوسط أو أسواق الطاقة، فضلاً عن ثقلها الروحي في العالم الإسلامي.

الشرُ القادم!
البعض يتصور أن قدوم جو بايدن، سيفتح أبواب الجحيم على الخليج، وهي رؤية تفتقر للقراءة السياسية الحصيفة. من جهته، د.محمد الرميحي، وفي مقال نشره بصحيفة "الشرق الأوسط" 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، انتقد هذه النظرة التي اعتبرها "تقف على أرض رخوة من المعلومات واعتماد التحليل التاريخي فقط تجاه الملفات في الشرق الأوسط، متجاهلين أن هناك مياهاً كثيرة قد جرت في سياق السنوات الأربع الماضية أثرت في مجمل المشهد، من جهة سياسات إيران التنمرية، أو من جهة فشل معظم ما توقع من الربيع العربي".

لو فرضنا جدلاً أن الديموقراطيين سيكونون صلفين في مواقفهم تجاه السعودية ودول الخليج، فإنهم ليس بمقدورهم اجتراح مشاريع عديدة تؤثر بشكل جذري أو عميق، ضد المصالح الخليجية. لنأخذ مثالاً دولة مثل كوبا، وهي النظام الذي يسوقه د.محمد العضاضي للتدليل على أن واشنطن مهما بلغت من القوة، إلا أنه ليس بمقدورها فعل كل ما تريد، حيث غرد في حسابه، قائلاً: "اذكر كل من علق مصير دولنا بانتخابات رئاسة أميركا، أذكرهم بدولة اسمها كوبا، جزيرة صغيرة سكانها عشرة ملايين وعلى بعد 120 كلم فقط من ولاية فلوريدا، نظام حكمها شيوعي اشتراكي شرس في عداوته لأمريكا ونظامها على مدى أكثر من ستة عقود، منذ 1959، عجزت أميركا أن تغير نظام كوبا حتى اليوم".

إذا كانت واشنطن لم تستطع أن تسقط النظام في هافانا، فهل ستستطيع أن تغير أنظمة قوية، مستقرة، صديقة، ورئيسية في الخليج؟ الإجابة واضحة للعيان، أن الرياض وبقية العواصم الخليجية لها وزنها الإقليمي، وشخصياً أعتقد أنها ستكون أكثر فاعيلة في المستقبل، لأنها ستعتمد على ذاتها وشعوبها، وعلاقاتها الخارجية، وتطوير اقتصادها، والدفع نحو مزيد من الإصلاحات والانفتاح الاجتماعي والثقافي، وهو ما يجري بالفعل حالياً على أرض الواقع.

إن "المصالح هى DNA العلاقات الدولية وليست العواطف والقيم والمبادئ، ومن ثم من الطبيعي أن تكون بوصلة المصالح الأميركية هى الموجه الأول لأي سياسي أميركي، وما يراه العرب تآمراً ضدهم من قبل هؤلاء، هو في الحقيقة خدمة لأهداف ومصالح دولتهم"، كما تقول رئيسة مركز الإمارات للسياسات د.ابتسام الكتبي، التي تضيف عبر حسابها في "تويتر": "الاعتقاد بأن الحزب الجمهوري أو الديموقراطي أفضل لنا من الآخر، أو أن فوز ترمب أم بايدن يحقق مصلحتنا، اعتقاد يعوزه المنطق السليم، فكلاهما يعمل من أجل مصلحته ومصلحة حزبه ومصالح أميركا بالدرجة الأولى، وإذا كانت مصالحنا تندرج تحت هذه اللآفتات الثلاث، قد تحظى بشيء من الاهتمام".

هذا ما يجب على المتحمسين من المعلقين العرب أن يعوه: السياسة ليست شعارات رنانة، أو انحيازات انفعالية؛ هي أن نرمي ببصرنا بعيداً، ونبني مصالح دولنا وشعوبنا وفق أفضل الممكن، بقوتنا ووعينا، وانخراطنا في المستقبل بعيداً عن الاعتماد على الغير، دون نبذه، وإنما التعاون معه، دون اعتقاد أنه المخلص والمنقذ من المشكلات.

العام 2016، وفي شهر شباط (فبراير)، كسر الأمير بندر بن سلطان آل سعود صمته، على غير عادته، ونشر مقالاً في موقع "إيلاف"، مما جاء فيه: "في النهاية الناس في منطقتي يتوكلون على الله، ويعززون قدراتهم وتحليلهم للوضع، بالتعاون مع الجميع". وهذا ما يجب على المتوجسين أو القلقين الانصات إليه.