عقد البرلمان التونسي، الثلاثاء، جلسة خاصة لدراسة أداء وزارة الشؤون الدينية، ومكنت نقاشات النواب من تحريك الجدل حول وزارة مهملة ومتروكة لقدرها، على الرغم من دورها الحيوي. وزارة يحصل العاملون فيها على أقل الرواتب، وأكثرهم غير متفرغين لشؤون الدين.

كما أن الكثير من الكادر الديني المسؤول عن المساجد لا يحملون شهادات عليا من جامعة الزيتونة، وإنما يتم تكليفهم عن طريق العلاقات ولاعتبارات تتعلق بتوازنات تقليدية مثل العروشية (عشائرية) أو سياسية حزبية، أو الولاء والقرابة من شخصيات إدارية.

من بداية الدولة الوطنية في 1956، كان التوجه الرسمي يعمل على تحجيم دور المؤسسة الدينية والتقليل من الإنفاق الموجه لها، وإعطاء الأولوية للمجالات الاقتصادية والاجتماعية. وكانت رؤية الدولة التي قادها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تهدف إلى تحييد الدين عن الحكم وتقليص نفوذ خريجي جامعة الزيتونة لاعتبارات من بينها الرغبة في بناء دولة حديثة تقوم على القانون وتسعى للأخذ بأسباب التقدم مثل ما تفعله أوروبا، وعلى وجه الخصوص فرنسا التي درس فيها.

ووجدت هذه الرغبة مبررات على أرض الواقع، حيث كانت الأفكار الدينية السائدة وقتها تميل إلى القدرية والتسليم بالتخلف، حتى أن الكثير من رجال الدين والصوفيين من كان يعتبر أن الاستعمار قدر، وأن من الواجب القبول به درءا للفتنة. كما أن البعض الآخر من رجال الدين، وخاصة جماعة الزيتونة، قد وقفوا في صف خصوم بورقيبة سواء في معارضة الاستقلال الداخلي كخطوة مرحلية قبل الاستقلال التام، ورفضوا أن تسلم المقاومة الوطنية سلاحها، أو ساندوا خصمه صالح بن يوسف الذي كان أقرب إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.

لم تكن الدولة الجديدة تحمل مقاربة للشأن الديني تسمح لها بمواجهة المد الإحيائي الديني القادم من الشرق كردة فعل على نماذج الدولة الحديثة في مصر وسوريا التي سعت لحصر دور الدين في مجال العبادة وفق منظور يقترب من منظور بورقيبة نفسه الذي كان مشغولا بالصراع السياسي مع مجموعات اليسار في ذروة القطبية الدولية والحرب الباردة.

قد يكون بورقيبة قد سمح بحركة إحيائية إسلامية لتوظيفها في سياق خلافه مع اليسار، لكن الأهم أن الدولة وقتها لم تكن تمتلك آليات الدفاع عن الهوية الوطنية في مواجهة فكر شرقي يؤسس للتكفير والكراهية ويبيح لـ”الفرقة الناجية” اعتماد كل الطرق والوسائل لمواجهة خصومها كونهم “كفارا أو مرتدين”.

وقعت الدولة في عهد بورقيبة ولاحقا في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في مفارقة من الصعب حلها، طرفها الأول يقوم على بناء دولة وطنية مدنية حديثة يكون دور المؤسسات الدينية فيها مرتبطا بجانب العبادات، وبين مواجهة مد قادم من الشرق يحتاج إلى رؤية دينية محلية تقوم على الاعتدال ولا تتناقض مع رؤية الدولة الوطنية.

 بناء مدرسة وطنية لا يحتاج إلى الكثير من الصراخ عن الاختراق الخارجي

بناء مدرسة وطنية لا يحتاج إلى الكثير من الصراخ عن الاختراق الخارجي

لم تنجح الدولة في بناء فكر ديني محلي يدافع عن نموذج التحديث، وكان الخطاب الرسمي يقوم على مفردات عامة مثل “الوسطية”، و”المدرسة التونسية” التي تعتمد على الفقه المالكي، ولم تتحول تلك المفردات إلى مشروع ديني بهوية وطنية، وهذا ما يفسر سهولة الاختراق القادم من الشرق، وهو اختراق مشغول عليه ماليا وسياسيا وثقافيا، وتحول إلى شبكة عابرة للدول، سواء أكان في وجهه الإخواني أو السلفي.

لا يمكن الاكتفاء بالصراخ في نقد الاختراق الإسلامي القادم من الشرق، خاصة أن الأمر تحول إلى اختراق منظم وعميق من بوابة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي صارت له فروع في أكثر من مدينة تونسية. كما بات السلفيون يسيطرون على المساجد ويسوقون بدورهم لرؤية دينية تربط تونس بالمشرق والولاء لشيوخه وفتاواه وميراثه الفقهي الذي يتناقض جذريا مع “المدرسة التونسية”.

والمفارقة أيضا أن الاختراق لم يعد إعلاميا أو سياسيا فقط، فقد بدأ يتسلل إلى برامج التدريس في جامعة الزيتونة بسبب ارتباط جزء من الكادر المدرس في هذه الجامعة بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المؤسسة التي أسسها المصري القطري يوسف القرضاوي كمرجعية إخوانية بمواجهة هيئة كبار العلماء في السعودية، وجامعة الأزهر في مصر، أي كواجهة للإسلام السياسي بمواجهة الإسلام الرسمي.

كما أن البرامج الدينية التي تقدمها بعض الفضائيات التونسية تسقط بدورها تحت تأثير الفكر الوافد خاصة أنها تحصل عليها بسهولة وأحيانا بشكل مجاني، في الوقت الذي تعجز عن الحصول عليها كإنتاج محلي.

ولا يمكن الحديث عن دور فعال لوزارة الشؤون الدينية في مواجهة الاختراق القادم من الشرق، والذي يستفيد من روافد كثيرة، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما لم تتغير الرؤية إلى الوزارة من هيكل هامشي للإشراف على المساجد والاحتفالات بالمناسبات الدينية، إلى رؤية أوسع بعيدا عن التجاذب السياسي.

والسكوت على الوضع الحالي للوزارة والهياكل التابعة لها، سيعني آليا فتح الباب أمام اختراق واسع ودائم لدول وجمعيات ومنظمات متسلحة بالمال والخبرات وقادرة على إنشاء المدارس والجامعات الخاصة، فضلا عن سهولة اختراق البرامج الدراسية لجامعة الزيتونة من خلال الإغراءات المالية والمهنية للمدرسين.

لم يكن اتحاد علماء المسلمين ليخترق المشهد لولا غياب جامع الزيتونة عن التأثير في المشهد الديني بتراثه الفقهي الكبير ودوره الرمزي في الدفاع عن الهوية الوطنية. لكن دولة ما بعد الثورة وبسبب تناقض الأجندات داخلها، تركت جامع الزيتونة ليكون أداة لإنشاء تعليم مواز مناقض للهوية التونسية الحديثة، وباحث عن العودة إلى ما قبل الدولة الوطنية.

إن بناء مدرسة وطنية لا يحتاج إلى الكثير من الصراخ عن الاختراق الخارجي، فقط يحتاج إلى رؤية وطنية أوسع تنظر إلى الدين كعنصر فاعل وداعم للانتقال الذي تعيشه تونس، بدل أن يترك بيد جمعيات وأجندات خارجية، ثم التباكي على الاختراق.

يمكن لجامع الزيتونة إذا كان بأياد جامعية منتصرة للتحديث ومتصالحة مع الدين كرافد رئيسي في الهوية الوطنية أن يلعب دورا مؤثرا في تخريج باحثين وأئمة بثقافة تونسية معتدلة وقادرة على مواجهة الفكر الوافد الذي لم يكن لينشأ ويتمدد لولا غياب رؤية مقابلة تقوم على الوضوح والمصالحة مع الذات.

ويحتاج الأمر إلى إخراج هذا الملف الحساس من التجاذب السياسي الذي طال كل شيء وهز ثقة التونسيين في الانتقال الذي تعيشه البلاد. لكن النظرة العدمية التي ترفض أي تغيير بزعم أن ما تأتي به المرحلة الحالية هو مؤامرة ويجب تقويضها ستجعل تونس مفتوحة على اختراق واسع اقتصادي وثقافي وإعلامي وديني، وسيكون من الصعب وقتها تطويقه.