(مهداة للراحل السيد محمد حسن الأمين)

مستوى سيطرة إيران على #الشيعة اللبنانيين، بيئةً ومناطقَ، غير مسبوقة في تاريخ هذا الجزء من المشرق العربي. كلمة “احتلال” التي يستسهل الكثيرون استخدامها في الحديث عن الامتداد الإيراني في لبنان، لا تفي بالغرض لا في تجسيدها الشيعي ولا في ديناميتها اللبنانية. في الحقيقة نحن أمام نوع مركّب من السيطرة الخارجية، الخارج فيه لم يعد خارجاً بوجود الأداة النابعة من البيئة المحلية التي يدير عبرها هذا “الخارجُ” التوظيفَ السياسي للطائفة ومن ثم للبلد. نقترب وربما اقتربنا، في حالة الشيعة اللبنانيين، من وأمام نموذج البروتستانت في إيرلندا الشمالية من وجوه عديدة. الوطنية الإيرلندية يمثّلها الكاثوليك، وهي على جهتي إيرلندا الشمالية وبقية الجزيرة أخذت تاريخيا المسافة الاستقلالية عن بريطانيا وهي مسافة تحققت عبر جمهورية إيرلندا في الجنوب وتحولت في إيرلندا الشمالية إلى نوع من حكم ذاتي بضغط كاثوليكي وقبول بروتستانتي و دور بريطاني لا يزال يواجه بين الحين والآخر عثرات صعبة كما يحصل حاليا في شوارع بلفاست.

الشيعة اللبنانيون هم بفعل النجاح التنظيمي والأمني والأيديولوجي للمنظومة الإيرانية الحاكمة في طهران تحت حكم إيراني مباشر، المباشر هنا هو مباشر غير مباشر يمثّله “#حزب الله”.

تصادف هذه الأيام الذكرى الثالثة والعشرون لتوقيع اتفاق الحكم الذاتي في إيرلندا الشمالية (1998) والمسمّى “اتفاق الجمعة العظيمة” بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا والأحزاب الإيرلندية الشمالية وفي مقدمها تنظيم شين فين الكاثوليكي المعتبر الجناح السياسي ل الجيش الإيرلندي الجمهوري (IRA) ذي البنية العسكرية السرية.

اتصفت سيطرة الجيش الجمهوري الإيرلندي على كاثوليك إيرلندا الشمالية تاريخيا بمزيج من الاستناد على المشاعر المعادية للحكم البريطاني لدى الأقلية الكاثوليكية وعلى ترهيب عنفي فعلي.

في حالة كهذه كيف نقيس الشعبية أو الامتداد الشعبي للتنظيم المعني؟ في الحالة اللبنانية لا شك أن الجهاز التنظيمي ل “حزب الله” ينجح بالتعاون مع “حركة أمل” في تقديم صورة عن السيطرة الشعبية على الطائفة الشيعية باعتبارها سيطرة “كاسحة”. حتى أنه بات يستحيل في الجيل الحالي تصور وجود معارضة فاعلة ضد هذين الحزبين المتحالفين بقبضة إقليمية، فكّا كمّاشتِها ممسوكان بقوة في طهران ودمشق.

عدا التصفية السياسية المنهجية ليس للمعارضة فقط، بل لاحتمال أي معارضة جادة، كان الضعف الداخلي في الطائفة الشيعية لكل أنواع المعارضات الممكنة مثيراً للتساؤل والتعجب. بل أكاد أقول تحويل هذه الحالات والقابليات المعارضة إلى حالات تافهة عدا في المجال الثقافي غير القادر على التغيير السياسي ولكن القادر على كشف الضحالة الثقافية لسيطرة أمنية سياسية خدماتية دولتية مالية اجتماعية مُحْكَمة رهيبة. فكيف تنتقل طائفة كالطائفة الشيعية أظهرت في تاريخ لبنان الحديث قابلية نخبوية وشعبية على التمرّد داخل وخارج الطائفة، لتصبح مطواعة لتحالف ثنائي فيها إلى هذا الحد غير المسبوق في تاريخها نفسه بحيث يَسْهُل قيادُها بهذا الشكل الذي يبدو فيه إرادياً وليس قسريا بينما الطائفة المارونية، ومعها كل المسيحيين اللبنانيين، لا تزال تُظْهِر حراكا قادرا على تغيير بناها التنظيمية المسيطرة، تغيير بشكل مستمر منذ خمسينات القرن العشرين، والطائفة السنية تتخلى بسرعة نسبية عن تجربة “الحزب الواحد” الحريرية التي لم تدم سوى سنوات معدودة وقد بدأت تظهر فيها بوضوح ملامح التغيير الفعلية مدناً وأريافاً. حتى الطائفة الدرزية الشهيرة ببنيتها المحافِظة أظهرت قابلية تغييرية لم تظهر في حالة “العبودية” الشيعية الراهنة كأن هؤلاء المواطنين الشيعة “عبيد” أكثر مما تحتمله السماء نفسها! وباسم ماذا؟ في زمن مقدّس يجري ضد مسار التاريخ الذي خفّف إن لم يكن ألغى كل حالات التقديس لبشر يريدون أن يتصرّفوا كآلهة.

ما هذا النجاح الإيراني في الحالة اللبنانية عبر الشيعة!

هكذا إذن إذا كان الحضور الإيراني في لبنان، قد تخطّى تعقيدُه مصطلحَ “الاحتلال” فهو أيضا يتخطّى مصطلح “الاستعمار المنزلي” الذي استخدمه فرانز فانون في الحديث عن السيطرة الفرنسية على الجزائر. وهذا طبيعي، فالمسافة بين فرنسا والشعب الجزائري كانت مسافة قطعية لا صلة فيها في الدين والثقافة والعرق. جسم خارجي بالمطلق يستعمر شعبا وأرضاً آخرَيْن. أما في الحالة الإيرانية فهي وإن كانت “سيطرة منزلية” عبر الجهاز المحلي فهي تستغل وشائج عميقة من وحدة المذهب وثقافة الجماعة الوطنية في العداء لإسرائيل. لكن عناصر الاختلاف الأخرى ضاربة وعميقة.

ماذا نسمّي هذه السيطرة إذن في “منزلها” الشيعي اللبناني؟

يا للدهاء الإيراني.

علينا أن نجد وصفاً لهذه العلاقة سيجده ذات يوم مؤرخ أو عالم سياسة أو لربما روائي. فمصير “حزب الله” بعد أن تتغيّر هذه العلاقة أن يتحوّل إلى طائفة داخل الطائفة. لكن في الشروط الراهنة كل عناصر “الاستنزال” ( على وزن استتباع) متوفرة، وأخشى ما نخشاه أن يصبح الإفقار الاقتصادي الحالي للمجتمع اللبناني ومن ضمنه الفقر الشيعي الشديد أقوى قدرةً على المزيد من “الاستنزال” على الأقل في المدى المنظور.

على أن المصير المشترك للبنانيين خصوصا في السياق الدراماتيكي الحالي الذي يعزّز يوميا هجرة النخب اللبنانية الشابة إلى الخارج، ناهيك عن التجذّر الحالي الحاصل أصلاً لكل هذه النخب الشابة في الغرب، سيجعل مسافة هذه الدياسبورا، بمن فيها النخب الشابة الشيعية المتعلّمة في الخارج والداخل، عن المجتمع المقيم في لبنان مسافةً أوسع وبالتالي أكثر حرية وقدرة على التفلّت من أي تنميط سياسي وفكري وتنظيمي حتى لو بدت في المرحلة الراهنة عاجزة عن التغيير كما أظهرت وظهرت ثورة 17تشرين.

زرتُ بلفاست عام 1998 مندوباً من “النهار” بعد “اتفاق الجمعة العظيمة”. كنتُ آتيًا من لندن. وأتذكّر أنني لم أكن قد حجزت في أي فندق في عاصمة هذه المقاطعة التي كانت يومها تحاول أن تختم 30 عاماً من الحرب الأهلية. كان يجب أن أصل على أول طائرة آتية من لندن لأتمكّن من تغطية اجتماع هام للقوى المحلية التي كانت متصارعة وتقبل مجددا بالتلاقي. في المطار عندما سألت مكتب التاكسي هل يعرف فندقاً أستطيع أن أبيت فيه، فوجئتُ به يقول لي نعم لكن بشرط. ظننت أنه سيطلب عمولة إضافية. قال تحجز في مسرح كذا لحضور فرقة باليه آتية من لندن لترقص هنا. وعندما قلت له أنني نُصِحْتُ بعدم التجول ليلا من أحد الركاب على الطائرة لأن الأوضاع الأمنية لم تزل متوترة ولم يبدأ تطبيق الاتفاق بعد. أجابني أن المسرح قريب من الفندق في وسط المدينة. وهكذا حصل. ذهبتُ مشيا على الأقدام لحضور الحفلة ولم يطلب موظف المكتب أكثر من ثمن ركوب التاكسي لأتأكد من ذلك أنني دفعتُ ثمن بطاقة المسرح فقط عندما قرأت الأسعار لاحقاً في مدخل المسرح نفسه.

حرب أهلية و رقص باليه. فعلناها نحن اللبنانيين أيضا خلال حربنا الأهلية مع فارق عن الإيرلنديين الشماليين، وهذا ما لا أزال أكرره لأولادي، أننا نحن أول ما دمّرْنا في الحرب الأهلية، كان وسط مدينة بيروت، أي المشترك المباشر بيننا، بينما هم، أي الإيرلنديون الشماليون وهذا ما أدهشني يومها عندما عرفتُ به، كانوا يتقاتلون بين أحياء سكنهم، فيما وفّروا وسط المدينة للذهاب إلى العمل. وفي اليوم التالي لوصولي كانت مسيرات الجمعة العظيمة تدل على جغرافية الأحياء الكاثوليكية كما يدل في بلادنا مجلس العزاء المنعقد على شيعية الحي.

ارتباط بروتستانت إيرلندا الشمالية بالمتروبول البريطاني هو أقوى بأشواط من أي ارتباط مفترَض لشيعة لبنان بإيران. ف “حزب الله” الإيرلندي الشمالي وهو الجيش الجمهوري وُلِد لدى كاثوليكها وليس لدى بروتستانتيّيها ولذلك عناصر المقارنة غير صالحة سوى من زاوية الإلحاق – الإلتحاق الشيعي بإيران ومدى اقترابهما من أن تصبح شبيهة بعلاقة البروتستانت الإيرلنديين ببريطانيا. لكن من دون سيطرة “حزب الله” ومظاهر امتداده التنظيمي الواسع فإن ولاءات شيعة لبنان هي متعددة ليس ثابتا مدى متانتها في العلاقة بإيران لو توفّرت وسائط أخرى أو لو غابت أو ضعفت وسائط موجودة.

كان القتال في بلفاست أيام الحرب الأهلية بين الأحياء السكنية الفقيرة، لكن هذه قصة أخرى تصلح روايتها الدامية والباكية لمجالس العزاء وليس مسارح الباليه وأكثر من قراء الصحف مع أن هذه الأخيرة أصبحت منابر بكاء دائم على أوضاعنا المنهارة.