سليمان جودة
الخبر الحلو جاء هذه المرة من إحدى جُزر بحر مرمرة في تركيا، حيث يقضي عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، أيامه في جزيرة هناك منذ 25 سنة. إن نظرة على الخريطة سوف تقول لنا إن بحر مرمرة يقع عند الطرف الغربي من مضيق البوسفور الذي يصل بينه وبين البحر الأسود، وأنه يقع كذلك عند الطرف الشرقي من مضيق الدردنيل، الذي يمتد ليصل بينه وبين بحر إيجه في شمال شرق البحر المتوسط.
يقضي أوجلان أيامه في محبسه في الجزيرة منذ أن جرى توقيفه في عام 1999 في العاصمة الكينية نيروبي، ومن يومها وهو في مكانه يراجع نفسه ويسترجع مسيرته الطويلة. وقد ظهرت حصيلة المراجعة والاسترجاع حين زاره نائبان كرديان في البرلمان التركي، بينما كانت السنة المنقضية تلملم أغراضها، فلما غادرا المكان أذاعا ما يفيد أن أوجلان أبدى استعداده خلال الزيارة لإصدار تعليماته إلى عناصر الحزب بإلقاء السلاح.
هذا خبر حلو لا شك في ذلك، وهو خبر حلو للأكراد في تركيا، وكذلك لتركيا نفسها التي تتمنى لو تغمض عينها وتفتحها فتجد قضية الأكراد قد وجدت حلها السعيد.
ويبدو أن قضية الأكراد في طريقها إلى الهدوء في المنطقة، وأن التوتر الذي ساد العلاقة بينهم وبين تركيا مرة، ثم بينهم وبين الحكومة السورية مرة ثانية، يأخذ سبيله إلى الانحسار بعد أن تبين أن العنف في هذه العلاقة ليس حلاً ولا في غيرها طبعاً.
نفهم ذلك مما جاء على لسان النائبين التركيين الكرديين، اللذين زارا أوجلان بترتيب أكيد مع الحكومة في أنقرة، واللذين غادرا مقره وهُما متمسكان بالأمل أكثر من تمسكهما بأي شيء آخر، وكان من علامات الأمل أنهما راحا يبشران بتحول أساسي في تفكير زعيم حزب العمال.
وهل هناك من التحول في التفكير ما هو أهم من أن يعلن رجل مثله، أنه مستعد لأن يخاطب رجال الحزب بأن يُلقوا السلاح؟ ما أبعد المسافة بين ما كان الرجل نفسه يقوله ويتمسك به من قبل، وبين ما خرج يقوله من خلال النائبين ويذيعه علينا.. فمن قبل كانت الدعوة إلى القتال من جانبه هي سيدة الموقف، وكان الإيمان بالعنف هو الأساس فيما يدعو إليه، وكان حمل السلاح واجباً في نظره على كل رجل في الحزب.
ونفهم من حديث أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة في دمشق، نفس ما نفهمه من كلام أوجلان إلى النائبين اللذين زاراه في مرمرة.. فالشرع قال عن أكراد سوريا في الشمال إنهم جزء من السوريين، وأنهم شركاء في صناعة المستقبل وفي الذهاب إليه.
والشرع لم يذكر هذا وفقط، ولكنه استقبل وفداً من قوات سوريا الديمقراطية المعروفة بقوات «قسد».. وكان قائدها مظلوم عبدي قد أعلن في وقت سابق أن قواته لا مانع عندها من الاندماج في الجيش السوري.
وما نفهمه من حديث هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، عندما زار دمشق قبل أيام، لا يختلف عما فهمناه من حديث الشرع والنائبين الكرديين.. فاعتراض الوزير التركي عند الحديث أثناء الزيارة عن الأكراد، كان على الوحدات الكردية التي تحمل السلاح، أما إذا كانت راغبة في العيش دون عنف ودون دعوة إليه فسوف يكون لها مكان تأمن فيه على نفسها.
ولا يوجد وفد عربي أو غربي زار العاصمة السورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام حكم بشار الأسد، إلا ودعا الإدارة الجديدة إلى عملية انتقالية سورية جامعة لا تستثني جماعة في أنحاء سوريا من الحسكة في الشمال إلى درعا في الجنوب.
وعندما استقبل الشرع وفد «قسد» فلا بد أنه كان يستجيب بشكل غير مباشر للدعوات التي أطلقتها وفود الغرب والشرق حين زارت دمشق، وحين قصدت أن تشدد على أن العملية السياسية الانتقالية في البلاد يجب ألا تأخذ جماعة سورية في حسابها ثم تدع جماعة غيرها، فالوطن لكل أبنائه والمواطنة مبدأ مهم في الجمع بين أبناء الوطن الواحد.
إنني أتطلع إلى الاستعداد الذي أبداه أوجلان، وأراه كأنه بداية لها ما بعدها، ولو أن الحكومة التركية راحت تشجع الرجل وتحفزه في هذا الاتجاه، فسوف يكون ذلك من دواعي الأمل في بدء السنة الجديدة، وسوف يجد السلام الذي يتبناه زعيم حزب العمال طريقه إلى أرجاء أخرى في المنطقة ويصبح كأنه عدوى. وليس من الضروري أن ترتبط العدوى بالأمراض والأوبئة وحدها، وإنما يجوز أن تجري بالسلام والمحبة بين الناس.
التعليقات