اكتشفت أن سبب عدم نجاحي في بعض الأعمال، التي سعيت إلى تنفيذها، ثم تركتها عاجزًا، أنني كنت أبحث عن الكمال في النتيجة، وهو ما أرهقني، وأتعبني، وتسبَّب في شدِّ أعصابي. كنت لا أرضى إلا بأن يكون كل شيء مثاليًّا، و”كل شيء مثاليًّا” هذه أمرٌ مستحيل، لأن كل شيء ممتاز هناك ما هو أفضل منه، وعلى هذا الأساس لن يُنجز العمل طالما أن صاحبه يبحث عمَّا هو أفضل، تاركًا ما في يديه، فإن وجده تركه ليبحث عمَّا هو أفضل منه، ثم إلى أين؟
قبل أيام قرأت حكمةً يابانية، وأهل اليابان أهل صناعة فائقة كما هو معروف عنهم، لذا تبدو حكمتهم موثوقة، لأنها صادرة من أصحاب الإنجازات التي سبقتها التجارب. تقول الحكمة: “الجمال في البعد عن الكمال”. ما إن قرأتها حتى عرفت تفسير إخفاقي في بعض ما كنت أبحث عن كماله. تصلح المقولة للجميع، وكل المجالات، وهي نصيحة لكل الطموحين والعاملين بأن يكتفوا بالوصول إلى الجمال لا الكمال، لأن الكمال حسابيًّا ومنطقيًّا أمرٌ غير واقعي، كما أننا إذا افترضنا أن ما يعدُّ كمالًا لأحدهم، ليس من الضرورة أن يكون كذلك للآخرين، لذا يكون الجمال السقف والهدف، وهو ما يستطيع البشر الوصول إليه والاتفاق عليه. سبق أن التقيت صديقي الذي كان يحاول طوال سبع سنوات تنفيذ مشروعه الخاص، ثم ألغى الفكرة نهائيًّا، وعندما سألته عن السبب، أجاب بأنه كان مُبالِغًا جدًّا في أن يكون كل شيء كاملًا من جميع النواحي قبل إطلاق المشروع، وهو ما أتبعه، وأفقده الكثير من أمواله ومجهوده ووقته. كان صاحبي قد اكتشف متأخرًا على أرض الواقع الحكمة اليابانية التي لم يقرأها. يبدو أنني سأرسلها إليه لكي يعرف السبب الذي جعل من الصناعة اليابانية ممتازة ومنتشرة. في المطاعم الشعبية الشهيرة يكون الجمال في الطعام وليس في ديكورات المطعم العادية، أو في مقاعده غير الوثيرة، وفي المطاعم التي لن تتمكَّن من دفع فاتورتها إلا إذا أخذت قرضًا بنكيًّا، عادةً ما يكون الجمال في المكان أكثر من الطعام، وفي الأماكن السياحية الشعبية، يكمن الجمال في روح المكان وليس في المكان نفسه، لأنه عادةً ما يكون فوضويًّا، وحتى في الوسامة فإن الوسيم هو مجموع تفاصيل وجهه وليست كل تفصيلة على حدة، وجمال المرأة كذلك، فبعض النساء الجميلات مثلًا قد لا تكون أسنانهن مصطفات بشكل متناسق، لكنَّ ذلك يضيف جمالًا بشكل ما على الوجه عامةً على الرغم من أن الأسنان لم تكن متناسقة. في الأعمال أيضًا يكون النجاح العام في توفر مسببات النجاح أكثر من مسببات الفشل. أردت مما كتبت أن أدفع بعض الشباب للانطلاق فيما يسعون إلى إطلاقه من أعمال دون الانتظار طويلًا، وأن يكون الجمال هو مستواهم وليس الكمال. يقول عالم الاجتماع المعروف علي الوردي عن الكمال والوصول إليه: “إن الكمال في كل شيء مستحيل، فمن طبيعة الحياة أن تكون ناقصة لكي تسعى في سبيل سد هذا النقص فلا تقف”.