في أعقاب حرب غزّة الأخيرة، والتي قد لا تكون الحرب الأخيرة، هناك مأزقان. المأزق الإسرائيلي والمأزق الفلسطيني. ليس غياب الطرح السياسي في إسرائيل سوى تعبير عن هذا المأزق في غياب القدرة على التخلّص من التركة الثقيلة لليمين الإسرائيلي. ليس فشل المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية في القاهرة سوى دليل آخر على عجز لدى “حماس” والسلطة الوطنية في آن على التقدم بطرح سياسي واضح يشير إلى رغبة في إقامة دولة فلسطينية مستقلّة قادرة على لعب دور إيجابي على الصعيد الإقليمي بعيدا عن الشعارات الفارغة.

هناك البرنامج الوطني الفلسطيني للعام 1988 وفي أساسه خيار الدولتين. لماذا لا يصبح هذا البرنامج معتمدا من “حماس” في ظلّ موازين القوى القائمة بدل بقاء “حماس” في تخبط بين ولاءاتها المختلفة؟

في حال كان لدى “حماس” طرح آخر، مثل الطرح الإيراني مثلا، لماذا لا تطرحه وتحدّد ما الذي تريده، أو على الأصحّ ما الذي تسعى له غير وهم من نوع تحرير فلسطين من البحر إلى النهر؟

تستطيع مصر إخراج الفلسطينيين من هذا المأزق الذي يعانون منه في حين يفترض في الإدارة الأميركية وأوروبا مساعدة إسرائيل في تطوير نفسها سياسيا والخروج من سياسة تقوم على اعتبار الشعب الفلسطيني شعبا غير موجود وأنّ لا بديل من الاستمرار في بناء المستوطنات وتقطيع أوصال الضفّة الغربية كي تصبح أرضا طاردة لأهلها.

سيكون صعبا على إسرائيل الخروج من مأزقها. هذا يحتاج إلى شجاعة ورجالات دولة بعيدي النظر لم يعد لهم وجود في إسرائيل. في المقابل، لا وجود لقيادة فلسطينية قادرة على اتخاذ قرارات كبيرة، كما كانت الحال أيّام ياسر عرفات الذي استطاع فرض اتفاق أوسلو وقبل ذلك البرنامج الوطني الفلسطيني في اجتماع المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر في 1988.

أخطر ما في الأمر الهوّة التي باتت تفصل بين الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، وهي هوّة تفصل بين عالمين في ظلّ قيادة فلسطينية مترهّلة في رام الله من جهة ورغبة “حماس” في بقاء “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها في غزّة من جهة أخرى. هذا ما يجعل دور مصر أكثر من ضروري لمعالجة حالة مرضيّة استمرّت أكثر من اللزوم.

تبدو الحالة المرضيّة الفلسطينية حالة مرضيّة إسرائيلية أيضا بعدما أمضى بنيامين نتنياهو اثني عشر عاما في موقع رئيس الوزراء الذي سبق أن بلغه للمرّة الأولى في العام 1996 بعد الهزيمة التي لحقت بشمعون بيريس أمام اليمين الإسرائيلي بعد أشهر من اغتيال إسحق رابين.

مع صعود اليمين في إسرائيل، تحوّل نتنياهو إلى ما قبل إزاحته، إلى الشخصية الإسرائيلية التي شغلت موقع رئيس الوزراء أكثر من أي شخّصيّة أخرى في تاريخ الدولة منذ قيامها في العام 1948. استهدف كلّ ما قام به “بيبي” على الصعيد الفلسطيني إلغاء خيار الدولتين انطلاقا من وجهة نظر في غاية التزمّت اعتمدها اليمين الإسرائيلي الذي اعترض أصلا على اتفاق أوسلو الذي وقّع في أيلول – سبتمبر 1993 في حديقة البيت الأبيض بين ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وإسحق رابين برعاية الرئيس بيل كلينتون.

ما هي تركة اليمين الإسرائيلي ولماذا يمكن القول إنّ هذه التركة أدّت إلى المأزق الإسرائيلي الحالي.

تختزل التركة بكلمة واحدة هي الاستيطان. تقوم التركة على فكرة إلغاء الشعب الفلسطيني بحقوقه المشروعة التي تفرض أن تكون له دولة مستقلة “قابلة للحياة” على أرض فلسطين التاريخية. تقوم التركة، أيضا، على ضمّ جزء من الضفّة الغربيّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة، إلى إسرائيل. وهذا ما يفسّر حملات الاستيطان في الضفّة وقطع الطريق على إيجاد مساحة كافية من الأرض الخالية من أيّ مستوطنات تصلح لقيام دولة فلسطينية.

لم يكن النهج الذي اعتمده “بيبي” خلال وجوده في موقع رئيس الوزراء جديدا، بمقدار ما أنّه سياسة قديمة اعتمدها اليمين الإسرائيلي من أجل التخلّص من الشعب الفلسطيني. هذه سياسة قصيرة النظر ما لبثت أن ارتدّت على اليمين وعلى بنيامين نتنياهو تحديدا. ارتدّت هذه السياسة على أصحابها بسبب وجود شعب فلسطيني لا يمكن إلغاؤه. في النهاية، كيف يمكن التخلّص من نحو سبعة ملايين ونصف مليون فلسطيني في الداخل الإسرائيلي وغزّة والضفّة الغربيّة؟ هذا ما لم يستطع بنيامين نتنياهو فهمه يوما.

في خريف العام 1991، انعقد مؤتمر مدريد للسلام برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذي ما لبث أن انهار مطلع العام 1992. حضر الرئيس جورج بوش الأب وكبار رجالات إدارته وعلى رأسهم وزير الخارجية جيمس بايكر. حضر أيضا ميخائيل غورباتشوف الذي كان يمضي أيّامه الأخيرة في الكرملين. كان الأمل كبيرا في أن يسفر مؤتمر مدريد، الذي شاركت فيه إسرائيل بوفد على رأسه إسحق شامير، عن الخروج بتسوية تضع أسسا لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي. ما كان يبعث على الأمل بذلك وجود إدارة أميركيّة جدّية تعرف المنطقة جيّدا تضمّ، إضافة إلى بوش الأب وجيمس بايكر، الجنرال برنت سكوكروفت مستشار الآمن القومي…

جرّت الإدارة الأميركية شامير جرّا إلى مؤتمر مدريد الذي انعقد على أساس مبدأ “الأرض مقابل السلام” وقرارات الشرعيّة الدولية. كان نتنياهو ناطقا باسم الوفد الإسرائيلي في مدريد. لكنّه كان قبل ذلك التلميذ النجيب لشامير، الذي ليس سوى شخص متحجّر أسير الدور الذي لعبه كزعيم لأحد التنظيمات الإرهابيّة في مرحلة ما قبل إعلان قيام دولة إسرائيل في 1948. سئل شامير وقتذاك عن المفاوضات الدائرة في مدريد، فكان جوابه إننا مستعدون للتفاوض عشر سنين أخرى، لكنّنا سنعمل، في موازاة التفاوض، على إيجاد أمر واقع على الأرض. أي سنستمرّ في بناء المستوطنات…

سار “بيبي” على خطى شامير. فاوض من أجل التفاوض. عمل كل ما يستطيع من أجل خلق أمر واقع على أرض فلسطين متجاهلا الشعب الفلسطيني. هذا التجاهل هو الفجوة الرئيسية في تفكير سياسي إسرائيلي يتقن المناورة والتكتيك، لكنّه لا يعرف شيئا عن الفكر الاستراتيجي.

تكمن المشكلة القائمة حاليا في أن ليس في الجانب الفلسطيني من يستطيع البناء على المأزق الإسرائيلي. ليس من طرف يخرج الجانب الفلسطيني من مأزقه غير مصر وليس من يخرج إسرائيل من مأزقها سوى إدارة أميركية تنتقل من تأييدها خيار الدولتين إلى خطوات عملية في تحقيق تسوية بضمانات إقليمية ودولية.

في النهاية إنّ قاصرين لا يستطيعان تحقيق سلام من دون مساعدة الكبار…