ولإظهار أنه يتحرك وفق أرضية دستورية متينة، وأن تأويله مسنود ومتين، استنجد سعيد الثلاثاء بأهم رموز القانون الدستوري العميد صادق بلعيد والعميد محمد صالح بن عيسى والأستاذ أمين محفوظ، في رسالة واضحة أنه لن يقبل بوضعه في الزاوية والهجوم عليه صباح مساء من شخصيات وأحزاب لا تفهم في الدستور وآلياته، أو أنها تتخذ من هذه القضية القانونية أرضية لاستهدافه لأجل أجندة أخرى مغايرة تماما خاصة ما تعلق بمحاربة الفساد وتفكيك اللوبيات التي تشكلت على هامش الحكومات السابقة، فضلا عن الانتقام لأجل التغييرات الكثيرة خاصة في المؤسسة الأمنية، والتي أسقطت خطط الاختراق والتمكين.
وخلال حديثه مع أساتذة القانون الدستوري، أرسل سعيد إشارة ذكية بشأن تشكيل الحكومة من خلال التأكيد على أنه “من المهم تشكيل الحكومة ولكن أيضا من الضروري وضع تصوّر للسياسة التي ستتبعها هذه الحكومة لخدمة الشعب التونسي”، وهذا يعني أنه مع تشكيل الحكومة سريعا وأن ليس لديه أي مانع أو اعتراض ولا حسابات خفية من وراء التأجيل، وفيه رسالة لمن تمترسوا وراء موضوع الحكومة للضغط عليه بزعم خوفهم على تعطل المصالح وتوقف المؤسسات الحكومية عن أداء دورها.
لكنه عاد ليؤكد أن الهدف ليس تشكيل الحكومة، ولكن برنامجها وخططها ومشاريعها، في خطوة تمتص مناورات الأطراف المقابلة وتعطي مبررا للبقاء دون حكومة إلى الحد الذي يستوي الموضوع تماما بضبط البرنامج واختيار الوزراء القادرين على تنفيذه مع ضمان نزاهتهم وولائهم، لمنع تكرار تجربة رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي الذي اختار القفز من صف الرئيس إلى صف الأحزاب المعارضة.
تم التعامل مع الرئيس على أنه شخص جديد على السياسة، وكل جهة، بما في ذلك الأحزاب التي دعمته في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الماضية، كانت تفكر بمنطق دعمه لأجل توظيفه في تحقيق مصالحها ومصالح قياداتها
وفي الوقت الذي يعتقد فيه داعمون للرئيس أن مواقف الرئيس بشأن دستور 2014 وسرعة تشكيل الحكومة مناورة سياسية لربح الوقت وتخفيف الضغوط الخارجية قبل تنفيذ ما يراه مناسبا، فإن هناك من يعتقد أنها استجابة للضغوط وعودة للآليات الدستورية التي قد تغرق سعيد في تعقيدات قانونية وسياسية تلهيه عن تنفيذ وعوده بالتغيير.
مثلا من داخل الدستور هناك تعقيدات لتنفيذ الاستفتاء، فهل سيتم ذلك بثلثي نواب البرلمان القديم أم ببرلمان جديد يتم انتخابه لتشريع التغييرات التي يريدها سعيد؟ وبأي معايير سيتم انتخاب البرلمان الجديد؟ وما الذي سيمنع صعود برلمان معارض حتى وإن تغيرت الأسماء طالما أن القانون الانتخابي لم يتغير؟
وتحذر أوساط سياسية داعمة للرئيس من الدوران في نفس المكان، حاثة سعيد على التحرك على أكثر من واجهة لتفكيك الجبهة التي تشكلت ضده خاصة أنها لم تعد تضم النهضة لوحدها، ولا الكيانات أو الأشخاص المحسوبين تقليديا على مجال مناوراتها، بل توسعت لتشمل حتى حلفاء الرئيس التقليديين من ذلك التيار الديمقراطي الذي خرج في الفترة الأخيرة من المنطقة الرمادية، وانضم إلى المعارضين بشكل جلي، وهو ما عكسه البيان الذي شارك في توقيعه مع الحزب الجمهوري وحزب التكتل، وحزب الأمل، وآفاق تونس.
وشددت الأحزاب الخمسة على رفضها “دعوات تعليق الدستور” و”حالة الجمع بين السلطة والانفراد بالقرار”، مستغربة “استمرار الفراغ الحكومي”.
لكن الأهم، وفق المراقبين، هو ضرورة حفاظ الرئيس سعيد على علاقة جيدة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو النقابة الأهم اجتماعيا وسياسيا، ويمكن الرهان عليه ليكون نواة صلبة لحلفاء الرئيس، شريطة أن يبدد سعيد حالة البرود مع الاتحاد وأمينه العام نورالدين الطبوبي.
ومشكلة الاتحاد ليست سياسية، فهو من البداية كان مع إجراءات الخامس والعشرين من يوليو، وساندها بوضوح في بياناته، وخلافه مع مؤسسة الرئاسة هو التعاطي معه وكأنه جهة بلا وزن، في الوقت الذي لعب فيه الاتحاد خلال السنوات العشر الأخيرة دورا مفصليا في المشهد السياسي، وكان وراء سقوط حكومات وصعود أخرى.
والأهم من كل هذا أن الاتحاد كان الطرف الرئيسي الذي وقف ضد حركة النهضة الإسلامية وأعاق خططها السياسية والاجتماعية خاصة ما تعلق باختراق المؤسسات العمومية وإجراء “إصلاحات” فيها تخدم أجندتها. فهل سيترك الرئيس سعيد الاتحاد وهو يستعد للانضمام لجبهة الغاضبين أم يعيده إلى صفه ويستمع إليه ويستجيب لمطالبه خاصة ما تعلق بالمسائل الاجتماعية وإيفاء الدولة بتعهداتها تجاه اتفاقيات سابقة حول تحسين أوضاع العمل والموظفين؟
ويشار إلى أن الاتحاد عمل على تقديم بدائل للرئيس لأجل تسهيل حل عقدة تعليق الدستور، وعقد الطبوبي لقاء مع رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، وخرج بعدها بتصريحات يدعو فيها إلى تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة تفرز برلمانا جديدا ويتم “على إثره نقاش الدستور ويتم تغيير النظام الرئاسي”، وهي تخريجة هدفها فتح أبواب الحل أمام الرئيس وتخفيف ضغوط الجبهة المضادة، وخاصة حركة النهضة.
إن نجاح الرئيس سعيد في تفكيك الجبهة المضادة محكوم بمغادرة مربع الصمت الحالي، وحسن المناورة، وإعادة بناء جبهة سياسية واجتماعية على أفكار واضحة.
التعليقات