لم تدخل قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 بذريعة التحرير وجعل العراق نموذجاً للديموقراطية يحتذى به في الشرق الأوسط ونزع أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها أصلاً، إذ أثبتت الأحداث والواقعات هدفاً رئيساً واحداً يكمن في التدمير العسكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي وكل ما يتصل بإمكان استرجاع العراق عافيته مستقبلاً.
وإذ التزم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن (2001-2009) بتطبيق السياسة الخشنة وفق مبدأ ورؤية المحافظين الجديد، بزج القوة العسكرية في تغيير الأنظمة السياسية التي لا تتلاءم مع السياسات والتوجيهات الأميركية، فإن الرئيس باراك أوباما (2009-2017) استخدم السياسية الناعمة التي كانت أكثر خطراً من سلفه، إذ إن ميوله ومرونته تجاه إيران جعلها تمتد بمشروعها الطائفي الرامي إلى تمزيق وحدة المجتمع وهويته الوطنية، لا في العراق وحسب بل في اليمن وسوريا ولبنان، وما وصلت إليه تلك الدول من تخلف وتقهقر على مستويات عدة.
ويقول معارضو سياسة أوباما إن من نتائج إجراءاته ظهور تنظيم "داعش" (2014-2019) الذي بسط وجوده على ثلث مساحة العراق غرباً، ونصف مساحة سوريا شرقاً، وتميز بإرهاب دموي فتاك لا سيما في قطع رؤوس المدنيين والعسكريين في بث مصور تقشعر منه الأبدان، وضمن هذا الحراك المتوافق مع إيران تم تشكيل "الحشد الشعبي" استجابة إلى فتوى "الجهاد الكفائي" أو الجزئي للمرجع الأعلى للشيعة علي السيستاني في النجف، والتي تخص طائفة واحدة وليس كل الطوائف ولا تمثل القانون ولا تتصل بالدستور العراقي.
وبحجة محاربة الإرهاب "الداعشي" قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً لأكثر من 60 دولة بين الاشتراك المباشر وغير المباشر، ودعمت "الحشد الشعبي" بفصائله الموالية لإيران وفق خطة 36 شهراً على ثلاث مراحل، وجرت خلالها عمليات القتل البشعة وتدمير المناطق وتشريد الأهالي وكل ما يتعلق بالمدن والحواضن الشعبية التي كانت معاقل للمقاومة العراقية في المحافظات ذات الأغلبية من العرب السنّة.
وعلى الرغم من تأثير ذلك الخراب والدمار المنهجي على قوى المقاومة، لكنها ما زالت موجودة وتمتلك حرية قراراتها من دون الحاجة لخوض مجابهة غير متوازنة، وما الإعلان الرسمي الأميركي وبعده العراقي بالقضاء على دولة "داعش" ثم إقرارهم في الوقت ذاته بأن التنظيم "الداعشي" لم ينته بعد، إلا دليل على استمرار الاضطراب المتعمد في تلك المناطق، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، في الثامن من الشهر الحالي اقتحم بعض العناصر الذين يعتقد انتماؤهم لتنظيم "داعش" محطة وقود وقاموا بخطف أحد موظفيها ضمن قضاء الرطبة في محافظة الأنبار غرب العراق.
ومن الوضع الميداني إلى السياسي، فالعملية السياسية التي وضعت أسسها الإدارة الأميركية على قواعد المحاصصة الطائفية والعرقية ما زالت قائمة إلى هذا اليوم، وعلى الرغم من الفشل الذريع في تنفيذ أية مشاريع بنيوية في تحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمية والعلمية طغى الفساد المالي والإداري على نحو سرطاني في مفاصل الدولة، وتعد فترة رئيس الوزراء نوري المالكي (2006-2014) الأسوأ والأخطر في الخطاب الطائفي العلني، وارتكاب قواته المجازر تجاه الاعتصامات والتظاهرات المدنية السلمية التي جرت في محافظات كركوك وديالى والأنبار ونينوى وغيرها، ومنها مجزرة الحويجة في الـ 23 من أبريل 2013 التي راح ضحيتها 54 شخصاً وإصابة العشرات بجروح، فثارت العشائر العربية السنيّة ضد هذا الطغيان السافر.
وإلى جانب ذلك حصل التبديد المقصود لأموال الدولة وثروة البلاد النفطية والزراعية والصناعية وموازنات سنوية بلغت مئات المليارات من الدولارات، من دون أن يلمس الشعب العراقي منها شيئاً، وكذلك تبعيته المذلة إلى إيران وتقديم مصالحها على حساب مصالح العراق وسط دعم واضح من إدارة أوباما لسياسة المالكي.
ومن ثورة العشائر العربية إلى ثورة "تشرين" الشبابية الحضارية في محافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية التي انطلقت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وتحت إشراف قائد فيلق القدس قاسم سليماني، تم قمع الشباب الثائر بأبشع الإجرام البربري باستخدام الرصاص الحي والقنابل الدخانية، فزهقت أرواح المئات وجرح الآلاف، ومع أن وسائل الإعلام المحلية والدولية وشبكات التواصل الاجتماعي وثقت ونقلت هذه المجازر في بغداد وذي قار والنجف وغيرها من المحافظات المنتفضة، فإن الموقف الأميركي بخاصة والغربي عامة لم يبد اهتماماً إنسانياً أو حقوقياً ولا سياسياً تجاه مطالب الشباب وتضحياتهم.
وعن سلسلة الانتخابات التشريعية فإن حقيقة نسبة المشتركين العراقيين تتقلص أكثر فأكثر حتى تدنت في انتخابات أكتوبر 2021 نحو 15 في المئة، مما يعني رفض عموم الشعب لهذه العملية السياسية الفاشلة وطبقة السياسيين الفاسدين المرتبطين بإرادات خارجية، وعلى منوال الانتخابات السابقة يتم تزوير النتائج لجعلها تتجاوز 40 في المئة من دون اكتراث بإرادة الشعب الغاضب والرافض لهم.
وبما أن الولايات المتحدة ما زالت تدعم هذه العملية السياسية وتتوافق مع هيمنة إيران على العراق، ولم تقم بخطوة واحدة في تصحيح أخطائها تجاه غزوها وتفردها بلا قرار أممي ولا تفويض من مجلس الأمن، لذا فإنها المسؤولة سياسياً وإنسانياً وأخلاقياً بل وقانونياً عن كل ما جرى ويجري من أوضاع مزرية ومتردية وعمليات إرهابية يعانيها الشعب العراقي، مع قناعة راسخة عند كثير من العراقيين والعرب بأن هذا هو المخطط الأميركي ذاته الهادف إلى تدمير البوابة الشرقية للأمة العربية ليتمدد المشروع الإيراني ويزعزع استقرار وأمن المنطقة.
إلا أن حقائق التاريخ تثبت أن العراق مهما تعرض لغزوات واحتلالات فإنه طال الزمن أو قصر ينتصر عليها، ولذلك قال الخليفة عمر بن الخطاب "العراق جمجمة العرب وكنز الإيمان ومادة الأمصار ورمح الله في الأرض، فاطمئنوا فإن رمح الله لا ينكسر".
التعليقات