في ظلّ الانهيار الاقتصادي والمالي الراهن، يتكرّر وصف بعض الظواهر في المشهد اللبناني بأنها "لا سابق لها في تاريخ العالم". حتى ولو كان الأمر ينطوي على المبالغة معظم الأحيان، فالقصد هو الدلالة على جسامة الكارثة التي حلت بلبنان.

وحسبنا أن نلفت النظر اليوم إلى سعي الحكومة والمصرف المركزي للحدّ المفرط من استعمال النقد المتداول بالليرة اللبنانية. وليس المقصود ضبط الكتلة النقدية بالليرة التي تشمل الحسابات المصرفية، فهذا أمرٌ مألوف، بل الضغط على استعمال الأوراق النقدية بالليرة إلى آخر الحدود.

مراقبة السيولة والتأثير عليها هي الوظيفة الأوّلى والسامية للمصارف المركزية، فالهمّ الأوّل لهذه المصارف هو المواءمة بين حجم السيولة ومصلحة الاقتصاد. فإذا جنح الاقتصاد نحو التوسّع السريع والتضخّم تعمد هي إلى ضبط السيولة، بواسطة أدوات السياسة النقدية، وإذا بدا أن الاقتصاد يتّجه نحو الانكماش والركود تطبّق مؤسّسات الإصدار – المصارف المركزية – إجراءات معاكسة بواسطة الأدوات نفسها بقصد تيسير التسليف وزيادة السيولة.

لكننا لا نعرف سلطة نقدية تدخل، بتشجيع من الحكومة، إلى جيوب المواطنين فتحصي ما تحويه من وحدات نقديّة بالعملة الوطنية وتجرّب أن تقيّدها أو تخفّضها إلى أدنى الحدود. وقد تساءل أحد المراقبين ساخرا عمّا إذا كان ممكنا أن يصدر قانون في لبنان يعاقب بالسجن كل من يضبط متلبّسا بحيازة ليرات لبنانية أو يتجاسر على التعامل بالعملة الوطنية.

خلفية هذه الحالة الشاذّة أن السلطات الحكومية والنقدية تريد "تشليح" الناس ليراتهم لمنعهم من استعمالها في شراء الدولار. إنها طريقة فريدة وغير مسبوقة لحماية سعر الصرف، أو الحدّ من القفزات الجنونية في سوق القطع، لكن هذه الطريقة تلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد لأنها تحدّ كثيرا من الاستهلاك ومن التعاملات التجارية في البلاد.

إن الاقتصاد اللبناني الذي تقلّص بنسبة تقارب 40 بالمئة منذ بدء الانهيار هو بأشدّ الحاجة إلى تدابير وسياسات مختلفة، تكافح الركود وتحفّز النموّ وتحرّك الأسواق. وقد شبعنا على مرّ السنوات السابقة من السياسات التي تفضّل قتل الاقتصاد على انفلات سعر الصرف، لأن هذا الانفلات يكلف "المنظومة" السياسية الحاكمة أثمانا باهظة لا تريد دفعها. وهي، أيضا، تتردّد كثيرا في دفع الثمن السياسي للإصلاح الحقيقي، وهو الطريق الشرعي الوحيد والسليم لحماية الاقتصاد الوطني والعملة الوطنية. صحيح أن الإصلاح، لاسيما الإصلاح المالي، يؤسّس قاعدة ثابتة وطويلة الأمد للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لكنّه، بالمقابل، يتطلّب تضحيات اجتماعية، مثل زيادة الضرائب وتخفيض بعض الإنفاق الاجتماعي ورواتب القطاع العام، وهي أمورٌ لا تقبلها القاعدة الشعبية بسهولة.

قد نكون على موعد قريب مع استئناف الجدل حول الإصلاح. فبعد اكتمال انتخاب البرلمان ولجانه لا بدّ من العودة إلى طرح ومناقشة "خطّة التعافي" التي أقرّتها الحكومة المعتبرة مستقيلة، في آخر جلسة لها قبل الانتخابات. وإذا حافظت خطوط النقاش على أشكالها السابقة، لا يُستبعدُ أن يكون محور النقاش الساخن، بدلا من تنفيذ الإصلاحات، هو توزيع خسائر النظام المالي على الأطراف، حيث تبنّت الحكومة المستقيلة وجهة النظر التي تريد تجنيب الدولة تحمّل أية نسبة من الخسائر رغم كونها المسؤولة الأولى عن الانهيار.

لم ترغب الحكومة بالتورّط في مناقشات مستفيضة حول المسائل الحسّاسة في الخطّة، بل كانت تكتفي بالاختباء وراء صندوق النقد الدولي بالادّعاء أن ما قرّرته هو من شروط بعثة الصندوق. سواء كان ذلك صحيحا أم لا، من واجب الحكومة أن تجادل الصندوق وموظّفيه في كل التوصيات أو التعليمات أو الوصايا التي لا تناسب الواقع اللبناني، لأن صندوق النقد ليس معصوما عن الخطأ، وربما عن المسؤولية.

منذ سنة 2011 استقبل لبنان ستّ بعثات للصندوق في إطار مشاورات "المادّة الرابعة" نشرت خمسة تقارير حول أدقّ تفاصيل الوضع المالي والنقدي في لبنان. ورغم إسهاب تقارير الصندوق في تسليط الضوء على مكامن الضعف والخلل في مالية الدولة، فإن أيّا من هذه التقارير لم يحذّر من أن النظام المالي اللبناني سائر على طريق الانهيار وأن أموال المودعين في خطر.