الزيارة التي قام بها الوسيط الأميركي والخبير في شؤون الطاقة آموس هوكشتاين إلى بيروت ما كانت لتحصل لو أن أوضاع المنطقة مستقرة وطبيعية، لكن الظروف الدقيقة مع عمليات التصعيد على وقع الأزمات التي تعصف بالعالم استدعت هذه الزيارة لتجنيب المنطقة أي مواجهات تزيد من حدة المشكلات في ضوء أزمة الطاقة العالمية، وهدفها الأول إعادة إطلاق مفاوضات ترسيم الحدود للتوصل الى حل يمنع المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية ويفجر المنطقة كلها.

كان واضحاً أن زيارة هوكشتاين لبنان هي للتأكيد أن واشنطن لا تريد حرباً تشغلها عن ملفات أخرى، وهي التي تسعى إلى توفير منافذ للطاقة وتشديد الحصار على روسيا، وبالتالي العمل على منع التوتر والتصعيد، ومحاولة إيجاد حلّ ملائم لملفي الغاز والنفط والترسيم بين لبنان وإسرائيل. على أن أي حل للأزمة واجتناب التوتر والمواجهة، يقتضي توفير استقرار معين وظروف ملائمة لا تسمح لأي طرف من الأطراف إشعال المنطقة عند أي منعطف سياسي وأمني يسعى من خلاله لتحسين شروطه في ملفات أخرى، وبالتالي أخذت واشنطن تهديدات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله على محمل الجد، وكذلك احتمالات ضربات إسرائيلية للبنان قد تشعل المنطقة وتمنع عمليات استخراج الغاز وتصديره كبديل للغاز الروسي.

على هذا الأساس لا يتوقف الأمر عند ترسيم الحدود أو إتاحة الفرصة للبنان لبدء التنقيب، بل طلب هوكشتاين بوضوح ضمانات بعدم السماح لـ"حزب الله" أن يبقي على تهديداته بمنع الاستخراج الإسرائيلي، معلناً أن السفينة اليونانية لم تدخل إلى المنطقة المتنازع عليها في الخط 29 إنما على حدوده، وبالتالي ما لم يتمكن لبنان من التوصل الى حل واضح مع الحزب ستبقى الأزمة قائمة ويمكن تفجير الوضع في أي وقت حتى لو تم الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية.

جاء الموقف اللبناني الرسمي الذي أُبلغ لهوكشتاين ليخفف التصعيد ويصب في الاتجاه الذي أراده الوسيط الأميركي، وليؤكد أن تهديدات "حزب الله" كان هدفها محدداً، من دون أن تلغي احتمال انسداد هذا الملف والوصول الى المواجهة. لكن هذه التهديدات لم تكن إعلان حرب، إذ إن "حزب الله" لا يشعل المنطقة من دون التماهي مع مرجعيته الإيرانية، وهي، أي إيران، لم تنعَ المفاوضات النووية حتى الآن، وبالتالي لا مصلحة لها ولا حتى للأميركيين الآن وفي ظل هذه الظروف التي تشهد موجات تصعيد في المنطقة أن تتفجر الحدود اللبنانية – الإسرائيلية براً وبحراً وتمتد إلى المنطقة من سوريا إلى العراق واليمن. واللافت أن "حزب الله" رفع سقف التهديد وهو على معرفة بأن الأميركيين لا يريدون أي توتر في المنطقة، وكأنه استدرجهم للعودة، بعد رفعه معادلة الاستخراج من كاريش مقابل التنقيب في قانا.

يعرف "حزب الله" أيضاً أن إسرائيل لا تستطيع التصعيد أو تنفيذ ضربات في لبنان إذا كانت تريد البدء في استخراج الغاز. فالمواجهة تؤدي إلى تعطيل عمليات الاستخراج، وبالتالي لا مصلحة لها الآن في الحرب. كما أن النظام الإيراني لا يريد التفجير طالما لم تعلن الولايات المتحدة نهاية المفاوضات النووية، وهدفه في هذه المرحلة وفي ظل الأزمات الداخلية والخارجية التي يعاني منها تحسين الشروط في غير موقع وفرض معادلات معينة تدفع الى فتح نافذة جديدة لإعادة إحياء الاتفاق النووي.

وقد تمكن "حزب الله" من وراء تهديداته من فرض معادلة في ما يتعلق بملفي الغاز والنفط والترسيم، وهو ما قد يفتح على انفراجات في عدد من الملفات الأخرى، خصوصاً إذا قرأنا تصريح نائب قائد "الحرس الثوري" الإيراني علي فدوي في 14 حزيران (يونيو) الجاري، والذي قال إن الظروف الحالية ليست ظروف اندلاع حرب وكذلك الإفراج عن ناقلة النفط اليونانية.

وما أتاح إمكان التقدم في ملف مفاوضات الترسيم ووقف التصعيد هو تخلي لبنان الرسمي عن الخط 29، وهو ما عجل بزيارة هوكشتاين أيضاً للحصول على جواب واضح من المسؤولين اللبنانيين. فالرؤساء الثلاثة في لبنان لم يتطرقوا إلى هذا الخط، وقدموا حلاً وسطاً هو التمسك بالخط 23 والحصول على حقل قانا كاملاً، بما يعني أن لبنان طالب بقانا مقابل كاريش، وهو يعجل استئناف المفاوضات غير المباشرة في الناقورة إذا وافقت إسرائيل برعاية أميركية على هذا الطلب، ويؤدي إلى توقيع الاتفاق على الترسيم.

لكن الأمور في هذا الملف أكثر تعقيداً من الأجواء الإيجابية التي سربت حول إمكان الوصول إلى حل، ومنها أن زيارة هوكشتاين تندرج ضمن أجواء الوصول الى تسوية. النقطة الإيجابية ربما تكون في عدم رفض الوسيط الأميركي الموقف اللبناني، لكن أي رفض إسرائيلي لتسليم لبنان حقل قانا قد يعيد الأمور الى نقطة الصفر ويفتح على احتمالات التوتر والمواجهة من جديد، ما قد يدفع الولايات المتحدة إلى الضغط للوصول الى حل، إذا كانت لا تريد فعلاً تفجيراً قد تمتد شراراته إلى المنطقة كلها، خصوصاً أن التصعيد الإسرائيلي في سوريا مثلاً بقصف مطار دمشق له استهدافات معينة، حتى أن إيران لم ترد عليه ولا "حزب الله"، وهو يأتي أيضاً في إطار المواجهة بين الطرفين في إطار ردعي وردود على التهديدات من خارج المناطق التي قد تؤدي إلى إشعال الجبهات كلها.

وعلى رغم تهدئة التصعيد، إلا أن المشكلة قائمة، حتى لو استؤنفت المفاوضات حول الترسيم البحري، إذ إن مشكلة الحدود البرية تبقى قائمة، ومفتوحة على التوتر والمواجهة في أي وقت إذا كانت الحسابات تستدعي ذلك، ويمكنها تعطيل أي اتفاق. فإذا وصلت المفاوضات النووية إلى طريق مسدود وأعلن الأميركيون والإيرانيون انتهاءها، سنكون أمام مواجهات لن يستطيع لبنان تجنبها، طالما أن "حزب الله" جزء من المشروع الإيراني، وهنا المواجهة تصبح حتمية وقد تتمدد إلى كل المنطقة، ما لم تشمل التسويات كل الملفات العالقة، النووية وغيرها.