في كل الاتجاهات ينطلق برسائله ذات المضمون المحدد برغبته في البقاء في الحكم إلى أجل غير مسمّى، وبكل المقاييس يظهر في الصورة مندفعا نحو مختلف الاحتمالات باستثناء مغادرة مكتبه في طريق السكة، فالسلطة تحولت بالنسبة إليه إلى غنيمة لا يمكن التفريط فيها كما هو النفوذ الميداني لتلك الميليشيات التي تدعمه في سياقات تبادل المصالح أو تقاسمها، وليبيا يجب أن تبقى تحت سيطرة فريقه إلى ما لا نهاية بدعم المستفيدين من وجوده سواء كانوا داخليين أو خارجيين.

هكذا يبدو المهندس عبدالحميد الدبيبة اليوم، وهو يباشر سلطة الأمر الواقع في غرب البلاد، ويهدد بالدفع نحو حرب لا تبقي ولا تذر في حال محاولة منافسه على الحكم ورئيس الحكومة الشرعية المنبثقة عن مجلس النواب فتحي باشاغا الوصول من جديد إلى وسط طرابلس.

من نيويورك يخرج الأمين العام للأمين المتحدة ليعلن أن السيد الدبيبة لا يرغب في ترك منصبه. وفي طرابلس يصرّح نائب رئيس المخابرات التركية أن أي هجوم على طرابلس سينظر إلى متزعميه والمشاركين فيه على أنهم أعداء لبلاده، أو لحكومته وهذا الأصوب، كما يؤكد السفير الأميركي المبعوث الخاص لإدارة الرئيس جو بايدن على أن المطلوب هو دعم الحكومة الحالية للسير بالبلاد في اتجاه تنظيم الانتخابات.

حملت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الكثير من مؤشرات البؤس الأممي، فالمنظمة الفاشلة في معالجة الملف الليبي كما في أغلب الملفات، حاولت خلال السنوات الـ11 التي مضت، أن تقوم بمهمة فريق الإطفاء الذي عجز عن إخماد اللهيب، وكانت في كل مناسبة تخضع لتوازنات الدول ذات المصالح المتناقضة التي تسعى بكل قوة إلى تقاسم النفوذ في ليبيا التي لا يمكن فصلها عمّا يدور في المنطقة ككل من غاز المتوسط إلى الصراع في مالي، ومن ظاهرة الإسلام السياسي والجماعات الجهادية إلى تنافس القوى الكبرى على أفريقيا، وحتى أزمة أوكرانيا لا تبدو بعيدة عمّا يدور في الأراضي الليبية، باعتبار أن المواجهة المفتوحة بين واشنطن وحلف الناتو من جهة وموسكو من جهة ثانية تعتبر محاولة غربية لكبح جماح التطلعات الروسية لممارسة دور الدولة الكبرى المشاركة في قيادة العالم وفق رؤيتها لتعدد الأقطاب، وهو ما جعل فريق الدبيبة والمتعاقدين معه في عواصم عدة، يقدمونه على أساس أنه الليبرالي المنخرط بقوة في سياقات العالم الحر والتاجر المتفهم لأبجديات السوق والمستعد دائما لتقديم الخدمات لحلفائه الغربيين، بينما ينعتون منافسه باشاغا بأنه صاحب نزعة استقلالية وقادم من مرجعية عسكرية وهو حليف للجنرال خليفة حفتر القريب من الروس والذي لا يزال يحمل الكثير من شعارات القذافي بعد الإطاحة بالنظام الملكي في سبتمبر 1969.

لا يتردد الدبيبة في التحذير من الحرب أو الإنذار بها، وإبلاغ الداخل والخارج بذلك، ليؤكد أن الأمن والاستقرار مرتبطان بشخصه وحكومته وأن كل محاولة لفرض حكومة أخرى يعني الخراب والدمار

أما تصريحات نائب رئيس المخابرات التركية جمال تشاليك، فيمكن فهمها من خلال قراءات للواقع تفرضه الحسابات والوقائع، ولاسيما أن لا أحد يرغب في الدفع من جديد نحو هجوم مهما كان الطرف الذي يخطط له أو ينفذه أو يوفر له الغطاء.

أولا، يبدو الأتراك راغبين في الانفتاح على كل الأطراف وهم يحتفظون بعلاقات جيدة مع باشاغا، واستقبلوا مؤخرا رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بالكثير من الترحاب، ولديهم حاليا جسور تواصل مع فريق الجنرال حفتر، لكن زيارة رجل برقة القوي إلى إسطنبول أو أنقرة تبقى مرتبطة بشكل كبير بمستجدات الحوار في مساقات التطبيع بين تركيا ومصر.

ثانيا، يرى مراقبون محليون وإقليميون أن مؤشرات السعي التركي للتقارب مع دمشق بعد سنوات الحرب والعداء، لا يمكن فصلها عن إعادة تحديد الأولويات في التنسيق الإستراتيجي بين أنقرة وموسكو والذي يشمل عددا من مناطق التأزم التي لا تغيب عنها أيادي الدولتين، ومن بينها ليبيا التي يرغب الأتراك في أن ينفردوا بها كممثلين للناتو، ولكن بالتفاهم مع الروس.

ثالثا، تتحدث الكثير من المصادر عن محاولات تركية لإقناع الدبيبة بالتخلي عن الحكم بشكل سلمي، ولكن ذلك يحتاج إلى إقناع الفريق الذي يقف وراء رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، والذي يتكون بالخصوص من رجل الأعمال علي الدبيبة عميد الأسرة ورائدها في خوض معركة الهيمنة على السلطة والبقاء فيها، والقيادي الإخواني علي الصلابي الذي يعتبر الراعي السياسي والعقائدي لرئيس الحكومة بل وصاحب النفوذ الأصلي سواء عليها أو فيها، بالإضافة إلى تيار الصادق الغرياني الشخصية المثيرة للجدل، والذي لا يزال يتزعم دار الإفتاء في طرابلس رغم عزله من منصبه منذ نوفمبر 2014 من قبل مجلس النواب في خضم حرب فجر ليبيا آنذاك.

وفي ظل هذا الواقع، حاول الدبيبة فتح أبواب للمساومة مع رئيس مجلس النواب شخصيا بعد أن نجح في اختراق محيطه، وعندما فشل في ذلك، اتجه للعمل على إعادة تفعيل الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بعد تجميدها في العام 2016، وهو ما تحقق فعلا، ما سيؤدي إلى الدخول بالبلاد في صراع قانوني يزيد من تفاقم الأزمة السياسية، حيث ينتظر أن يعلن عن عدم دستورية قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الصادرين عن البرلمان، وعن عدم دستورية حجب الثقة عن حكومة الدبيبة ومنحها لحكومة باشاغا، بل وقد يتم العصف بكل مخرجات العملية السياسية للسنوات العشر الماضية من خلال التناطح الدستوري بتشكيل دائرتين دستوريتين الأولى في طرابلس والثانية في البيضاء، وهو ما يعتبره الدبيبة مكسبا له، فديمومة الصراع أثبتت أنها الطريق الأفضل للاستمرار في الحكم وخاصة عندما يكون النفط جاريا دون انقطاع وإيراداته تصل مع مطلع كل يوم جديد إلى حسابات سلطة الأمر الواقع.

أبلغ المهندس الدبيبة الفريق الأممي بأنه غير مستعد للتنازل عن منصبه إلا لسلطة يختارها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة، وأن موقفه هذا يعبر عن إرادة أغلب الليبيين وعن الفاعلين الأساسيين السياسيين والاجتماعيين والميدانيين، وأنه مستعد لتنظيم الاستحقاق في أقرب وقت، شريطة أن يتراجع مجلس النواب عن دوره المعرقل، وأكد أن تخليه عن السلطة لحكومة باشاغا سيفتح باب جهنم على البلاد، باعتبار أن باشاغا غير مرغوب فيه وفق زعمه من قبل أغلب الميليشيات بسبب تحالفه مع الجنرال حفتر، وأن الحرب قد تندلع في أيّ حين لتعصف بحالة الاستقرار النسبي المسجلة منذ صيف 2020.

تبدو العلاقة بين الدبيبة ومريديه مرتبطة فقط بالمصالح المالية والوظيفية وبإفرازات خطابه الشعبوي المتمحور أساسا حول المنح والقروض والزواج والإسكان وغيرها من الامتيازات التي ستستفيد منها قلّة قليلة

أما رسالة الدبيبة للأميركان وحلفائهم الغربيين، فقد تمحورت حول مآلات الصراع الدولي على النفوذ في بلاده، حيث قدم نفسه على أنه جزء من الرؤية الغربية للديمقراطية في ليبيا، وعلى أنه المؤتمن على المسار الانتخابي وعلى الحريات العامة والخاصة وحقوق المرأة ومحاصرة ظاهرة الهجرة السرية نحو الساحل الشمالي للمتوسط، والقادر أكثر من غيره على قطع الطريق أمام أيّ طرف قد يعيد خلط الأوراق بالتحالف مع موسكو كالجنرال حفتر أو سيف الإسلام القذافي.

لكن كل رسائل الدبيبة كانت منقوصة من بند مهم، وهو أن بقاءه في الحكم يعني استمرار الانقسام في ليبيا أو الاتجاه نحو انقسام أكبر، وهو وإن كان قد نجح بالفعل في التمسك بمقاليد السلطة إلى حد الآن، إلا أن سلطته لا تتجاوز 20 في المئة من مساحة البلاد، والحديث عن تنظيم انتخابات في مثل هذه الظروف يبقى وهما غير قابل للتصديق أو التطبيق، يضاف إلى ذلك أنه لم يقطع أيّ خطوة في طريق ترسيخ السيادة الوطنية وخاصة في علاقة بملفات القوات الأجنبية وجحافل المرتزقة الوافدة، وفي حل الميليشيات، ويسعى لعرقلة جهود توحيد المؤسسة العسكرية، باعتبار أن ذلك المشروع قد يعصف بطموحاته السياسية التي يبنيها على أساس زعامة شخصية يهدف إلى تحقيقها في إطار جهوي مناطقي لا يخرج عن دائرة الصراع القائم مع القوى الأساسية المؤثرة في بقية مناطق البلاد وفي مقدمتها قيادة الجيش الممثلة في شخص الجنرال حفتر.

كما تبدو العلاقة بين الدبيبة ومريديه مرتبطة فقط بالمصالح المالية والوظيفية وبإفرازات خطابه الشعبوي المتمحور أساسا حول المنح والقروض والزواج والإسكان وغيرها من الامتيازات التي ستستفيد منها قلّة قليلة من الشباب بما يثير غضب الأغلبية المحرومة من ثروة وطنها، وبما يزيد من حجم غيمة الفساد التي تغطي سماء السلطة في طرابلس، ولاسيما أن الوضع لم يعد يطاق، وقد شمل كل المجالات والميادين بدءا من المصارف والصفقات السيادية والمناصب الحكومية والدبلوماسية وصولا إلى الفرق الرياضية وطبع الكتاب المدرسي.

لا يتردد الدبيبة في التحذير من الحرب أو الإنذار بها، وإبلاغ الداخل والخارج بذلك، ليؤكد أن الأمن والاستقرار مرتبطان بشخصه وحكومته وأن كل محاولة لفرض حكومة أخرى يعني الخراب والدمار، وقد وجد فعلا من يصدقه أو يتبنى رؤيته، ولكن الوضع لن يستمر طويلا، فكل يوم جديد تباشر فيه حكومة الأمر الواقع سلطتها يدخل في سياق العد التنازلي نحو التقسيم الفعلي للبلاد، ولمزيد التأزيم الاقتصادي والاجتماعي في مناطق نفوذها، أما الانتخابات التي يعتقد الدبيبة أنه سيدخلها بقوة وينتصر فيها ويضمن من خلالها السيطرة على ديمومة الحكم إلى ما لا نهاية فلن تنتظم وهو في موقعه والبلاد باقية على تشتتها، وإذا رأت الدائرة الدستورية العائدة إلى نشاطها أن تدعمه بالدخول في مواجهة مع مجلس النواب فإنها ستوفر ضمانات عملية للتقسيم الفعلي، ليصل الدبيبة إلى منتهى ما قد تحمله مضامين رسائله الموزعة في كل الاتجاهات من نتائج مأساوية كلمة السر فيها تكريس دكتاتورية أسرة أو فئة دون حتى الشروط الموضوعية للدكتاتورية.