قد لا أجد غضاضة في تكرار الكتابة عن (هُوِيَّات المدن) التي تميزها انطلاقًا من جغرافياتها الطبيعية والسكانية. هُوِيّة تُبرز محاسنها، وتخلد تاريخها، وتربط مكانها بإنسانها، وتجعل لها صفتها التي لا تتكرر في غيرها. هكذا كتبت قبل اليوم عن هذه الفكرة في: (مجلة إمارة منطقة مكة المكرمة)، ثم في صحيفة الجزيرة، وأكرر الكتابة اليوم بمناسبة تأسيس: (هيئة تطوير الطائف)، وقبل ذلك تنظيم (هيئة تطوير مكة المكرمة)، وكلامي يدور حول كبريات مدن منطقة مكة المكرمة: (مكة المكرمة- جدة - الطائف)، فلكل من هذه المدن؛ خاصية جغرافية وسكانية وتاريخية واقتصادية مختلفة. هل راعينا في التخطيط العمراني والتنموي هذه الخصائص..؟ وأبرزنا هذه المميزات..؟ وأوضحنا هذه السمات..؟ هذا الكلام يمكن أن يقال عن بقية المدن السعودية كبيرة وصغيرة، فلكل مدينة سماتها وصفاتها وتفردها الجغرافي والسكاني والتاريخي كذلك.

نحن لسنا بدعًا في هذا العالم، وإن كنا الأكثر عمقًا في حضارته وتاريخه، وبهذا؛ نتحمل مسؤولية تاريخية وحضارية تجاه مدننا التي نعيش فيها. لنأخذ على سبيل المثال؛ باريس عاصمة الدولة الفرنسية، تُذكر.. فتذكر معها الحرية، وشيوع المعرفة، والتقاء الثقافات، لهذا.. اكتسبت لها هُويّة خاصة متفردة، فهي تُنعت بأنها عاصمة النور. ومثلها لندن، عاصمة المملكة المتحدة، التي تُنعت بعلاقتها الفريدة بالضباب، فيقال: لندن عاصمة الضباب.

ولو استعرضنا الكثير من مدن العالم شرقيه وغربيه، لوجدنا أن لكل مدينة شهرة خاصة، بل هُويّة لا يكاد يشترك معها غيرها فيها، ونلحظ عناية المخططين والمطورين بهذا الجانب في عمران ومعالم وجماليات هذه المدن.

وعلى المستوى المحلي؛ فقد فرضت بعض المدن شهرتها أو هُويّتها الخاصة، انطلاقًا من موقعها الجغرافي، أو مناخها المتميز، أو منتجها الصناعي والزراعي، أو حتى بعدها التاريخي ومكانتها الدينية، فلم يبق إلا تجسيد هذا في العمران والمعالم والمداخل والمخارج.

إذا أتينا إلى مكة المكرمة، فهي عاصمة كافة المسلمين في العالم بدون منازع، وهي المدينة الدينية المقدسة، ومثلها المدينة المنورة، مدينة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.

سوف أتوقف عند (المدن الثلاث) الكبرى في منطقة مكة المكرمة: (مكة المكرمة وجدة والطائف)، فالحديث عن كل مدن المملكة؛ يحتاج إلى سلسلة من المقالات، وجهدي في هذا المقال؛ ينصب حول هدف واحد وهو: صياغة الهُويّة للمدن.

إن مكة المكرمة، تُحدد هُويّتها الخاصة من مكانتها الدينية في نفوس المسلمين، ولتاريخها المرتبط بالرسالة السماوية منذ مئات السنين، وكل ما هو مطلوب منا، تعميق أسس هذه الهُويّة بشكل عملي، وإبراز جوانبها المميزة لها، في مظهرها وفي حياتها وحركيتها العامة.

ثاني مدن منطقة مكة المكرمة هي مدينة جُدة، وهي التي رسمت منذ بدء ظهورها هُويّتها من البحر الأحمر الذي ترتمي على حده الشرقي. إن جُدة؛ هي هبة البحر الأحمر، وهي بوابة الحرمين الشريفين، وهي ميناء المملكة، ورافد اقتصادها وتجارتها، فهي كما يسميها أهلها: عروس البحر الأحمر. لكن الذين يدخلون جُدة، ويجوبون حدائقها وشوارعها وميادينها العامة، ليس في وسعهم تكوين صورة ذهنية كاملة عن هُويّة جدة. هل هي مدينة بحرية، أم تجارية واقتصادية، أم غير ذلك؟ ليس هناك هُويّة محددة لجُدة تعرف بها، فتؤطر من خلالها مكوناتها العمرانية والجمالية والمهنية والثقافية وغيرها.

ثالث هذه المدن الكبيرة هي الطائف. هي ثالث المراكز الحضارية في جزيرة العرب، التي عُرفت منذ ما قبل الإسلام - مكة ويثرب والطائف- اشتهرت منذ نشوئها بالزراعة، ثم تحولت إلى مصيف بامتياز، ومدينة سياحية شهيرة. ما هي هُويّة الطائف بالضبط؟

لم نر حتى اليوم؛ تأطيرًا ولا مُحدِّدًا واحدًا يجعلنا نقول إن الطائف مدينة زراعية، أو سياحية، أو غير ذلك. لم تتناغم حركة التخطيط والعمران والتنمية مع هدف يصل بنا إلى هُويّة واضحة لهذه المدينة. ظل أهلها يطلقون عليها أسماء كثيرة من مثل: الطائف المأنوس، والطائف المأمون، ومدينة الورد، ومدينة المؤتمرات، ومدينة السلام، وعاشقة الغيم، ومصيف المملكة الأول، وعروس البر. كل يخطب ود الطائف، والطائف لا تقر لهم بهذا..!

نصل في النهاية، إلى أهمية العمل والتخطيط من جديد، على مراعاة طبيعة ورسالة كل مدينة، وأن يكون هذا في صلب التخطيط والتكوين العمراني والسكاني وحتى الثقافي والمعرفي، لنصل في نهاية المطاف، إلى مُحدِّدات ظاهرة، تبرز لنا هُويّة كل مدينة على حدة. ليس صعبًا أن نرى هُويَّة كل مدينة؛ في مداخلها ومخارجها، وفي ميادينها العامة، وفي شوارعها وحدائقها، وفي مبانيها السكنية، وفي ألوان موحدة للمباني والمنشآت، وفي مجسماتها الجمالية والفنية.

إنها مهمة صعبة، وتحدٍّ كبير، خاصة بعد توسع هذه المدن وتمددها دون حساب لهذه الناحية، لكن لا صعب ولا تحدٍّ يقف في طريق إرادة التعمير والتغيير التي تنهض بها الدولة على كافة المستويات، من (التحول الوطني 2020)، إلى (رؤية السعودية 2030). وهذه إذن من مهام هيئة تطوير الطائف الوليدة، وهيئة تطوير مكة وجدة. ماذا لديهم اليوم ليقولوه في هذه المسألة..؟ إننا ننتظر.

لن أغادر هذه المساحة؛ قبل توضيح وتصحيح لغوي مهم يتعلق بمصطلح: (هُوِّية)، فكثيرًا ما نسمع بعضهم يقول: شعبٌ بلا هَوِيَّة - بفتح الهاء، وكسر الواو - وهذا خطأ شائع ذائع، وصواب النطق: هُوِيَّة - بضمِّ الهاء وكسر الواو، كما في المعاجم اللغويَّة كالوسيط مثلًا؛ لأنَّه نسبة إلى (هُوَ). ومثله قولهم: (الهَويّة الوطنية)..! فهي (هُويّة لا هَويّة)، لأن الهُوِيَّةُ هي: حقيقة الشيء أو الشخص تميّزه عن غيره، فهُوِيَّةُ الْإِنْسَانِ: حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ، وَصِفَاتُهُ الْجَوْهَرِيَّةُ، وكذا المدن والمعالم وغيرها. أما الهَوية بفتح الهاء؛ فهي الهاوية أو الحفرة والعياذ بالله، وقد تكون من الهَوى، وهو الرغبة. وهذا هو الفارق بين أن تكون لمدننا هُويّة تميزها وتبرز معالمها وخصائصها، وبين أن تكون نهضتها ونموّها على هوى هذا وذاك، أو إلى الهاوية والحفرة على ذمة سيبويه والعياذ بالله.