وصلت شريحة واسعة من اللبنانيين إلى حافّة اليأس من إمكانية إخراج لبنان من أزمته الوجودية بواسطة مسكِّنات سياسية تبدأ بانتخابات نيابية ولا تنتهي بانتخابات رئاسية حدّها الأقصى تحصين دور الدولة من دون القدرة على معالجة جوهر المشكلة، فيما الأنظار تبقى على بكركي ومبادرتها لمؤتمر دولي يُنهي هذه الأزمة.

لا تعني الواقعية السياسية التسليم بالأمر الواقع، إنما تعني التعامل بواقعية مع طبيعة الأزمة من زاوية سقوف المواجهة التي تتبدّل تبعاً لتبدُّل الظروف، وتعني في مقياس الأزمة الحالية السعي إلى سلطات دستورية تلتزم بالدستور والقرارات الدولية، ولكن هذا السعي لن يحقِّق أهدافه في ظل حزب مسلّح يُقيم حاجزاً يمنع قيام الدولة الفعلية، ويستحيل إزالة هذا الحاجز بواسطة ميزان قوى لبناني أقصى ما يمكن فعله إقامة مثيل له في الجهة المقابلة، فيما المدخل الوحيد لحلّ الأزمة اللبنانية يكمن في ميزان القوى الدولي وتدخّله لإنهاء هذه الأزمة.

ومعلوم انّ المجتمع الدولي لا يتدخّل غبّ الطلب وليس كـ»الصليب الأحمر» الذي يهرع لنجدة مواطن أصيب بعارض صحّي، إنما غالباً ما يتدخّل لضبط النزاعات تحت سقوف معينة وليس العمل على حلها ومعالجتها، ومن الخطأ تَوقُّع الكثير منه ما لم تبادر القوى المعنية إلى ممارسة أقصى الضغوط عليه وخلقها بالتوازي مروحة من الوقائع السياسية التي تدفعه إلى التدخُّل.

وعلى رغم انّ دعوة البطريرك بشارة الراعي إلى إعادة العمل بمبدأ الحياد تدخل في صميم الميثاق اللبناني الذي شكّل الحياد أحد مرتكزاته الأساسية، إلا انّ هذه الدعوة غير قابلة للتطبيق باتفاق لبناني-لبناني على غرار ميثاق العام 1943، لأن الانقسام المسيحي-الإسلامي بين مؤيّد للحياد ورافِض له كان نتيجة شعور بين انتماء لبناني وانتماء عروبي، فيما الانقسام اليوم أبعد من مشاعر بانتماء إلى فضاء أوسع من لبنان ويتعلّق بفريق قراره في طهران ويشكل جزءاً لا يتجزأ من مشروع إقليمي.

فالحياد إذاً غير قابل للتطبيق من باب التفاهم اللبناني-اللبناني، والأمر الوحيد القابل للتطبيق وإنقاذ لبنان هو دعوة البطريرك الراعي إلى مؤتمر دولي لحلّ الأزمة اللبنانية التي يستحيل حلها بتفاهم بين اللبنانيين، وما لم يتدخل المجتمع الدولي لإنهاء هذه الأزمة يعني استمرارها إلى أمَد غير معروف من خلال الرهان على متغيرات خارجية وحروب تؤدي إلى هزيمة محور الممانعة في المنطقة، ولكن لا يجب التقليل من خطورة الانتظار وعامل الوقت باعتبار انّ فريق الممانعة يتنفّس في مناخات عدم الاستقرار خلافاً للرأي العام الذي يفضِّل الهجرة بحثاً عن مساحات استقرار وازدهار بعيداً عن العنف والفوضى والفقر، وبالتالي خطورة هذه الأوضاع انها تؤدي مع الزمن إلى تبدلات جوهرية في بنية المجتمعات.

ويفترض ان يكون هناك قناعة لدى جميع اللبنانيين بأنّ حلّ أزمتهم الوطنية غير ممكن سوى من خلال الرهان على تطورات خارجية أو الدفع نحو انعقاد مؤتمر دولي، وخلاف ذلك فإنّ الأزمة ستراوح، وانتخاب رئيس للجمهورية غير خاضع لـ»حزب الله» يدخل في سياق الحدّ من تأثير نفوذ الحزب على الدولة، ولكن لا علاقة له بجوهر الأزمة الذي يتطلّب حلولاً جذرية على قاعدة إمّا تطورات تؤدي إلى غالب ومغلوب، اي هزيمة محور الممانعة، أو رفع عنوان المؤتمر الدولي وتحويله إلى هدف مرحلي ونهائي للأزمة اللبنانية على غرار عنوان إخراج الجيش السوري من لبنان الذي لم يتحقّق سوى على أثر تطورات متلاحقة بدأت مع الخروج الإسرائيلي من لبنان وأحداث 11 أيلول وسقوط طالبان وصدّام وصولاّ إلى لقاء بوش-شيراك في النورماندي وصدور القرار 1559، وقد تلازمت التطورات الخارجية بأخرى محلية مع نشوء لقاء قرنة شهوان ومن ثم مصالحة الجبل ولقاء البريستول وصولاً إلى اغتيال الشهيد رفيق الحريري ظَنّاً من محور الممانعة انّ اغتياله يُسقط مفعول القرار الدولي، فحصل عكس ذلك تماماً..

وقد أظهرت تطورات السنتين المنصرمتين انّ الوضعية الداخلية مهيّأة للتغيير، والحلقة المفقودة تكمن في الوضعية الخارجية وضرورة تقاطعها مع الوضعية الداخلية، والتعويل لتسريع هذا التقاطع بين الخارج والداخل يقع على البطريرك الراعي لأربعة أسباب أساسية:

السبب الأول: لأنّ البطريرك كان أوّل من دعا إلى مؤتمر دولي لإنهاء الأزمة اللبنانية، وكان شديد الوضوح في الخلفية الكامنة وراء دعوته ومردّها لعدم قدرة اللبنانيين على إنجاز تسوية تاريخية، وحاجتهم لمؤتمر على نسق اتفاق الطائف، وهذا الكلام قاله حرفياً انه بعد تَعذُّر الوصول بين اللبنانيين إلى حلّ لا بدّ من تدويل فعلي للقضية اللبنانية.

السبب الثاني: كَون البطريركية المارونية لم تكن يوماً طرفاً في الصراعات السياسية والسلطوية، إنما تتحدّث دوماً عن ثوابت ومبادئ وطنية، وهذا ما يجعلها الأقدر على مخاطبة جميع اللبنانيين وتعبئتهم وتوحيدهم حول الهدف الإنقاذي الوحيد من الموت المحتّم وهو المؤتمر الدولي.

السبب الثالث: لأنّ دور بكركي التاريخي يُسهِّل عملية تواصلها مع عواصم القرار العربية والغربية لتبني فكرة المؤتمر الدولي، وهذا الإنجاز، لو تَحقّق، يُدخل بكركي وسيّدها التاريخ للمرة الرابعة على التوالي بعد لبنان الكبير وإنهاء الحرب وإخراج الجيش السوري، ويكون قد أنقذ اللبنانيين من هجرة حتمية رفضاً لتحويل بلدهم إلى ساحة موت وعدم استقرار.

ويُفترض ان تكون وجهة البطريرك الأولى إلى المملكة العربية السعودية الوحيدة القادرة، من خلال ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان الذي يشبك علاقات وثيقة ومتينة بدءاً من واشنطن وباريس وصولاً إلى موسكو وبكين، على وضع لبنان على جدول أعمال الأمم المتحدة.

السبب الرابع: لأنّ للفاتيكان دوره المؤثِّر لدى عواصم القرار، وصَوت الكنيسة المارونية مسموع جيداً في أروقة الفاتيكان باعتبار انّ لبنان آخر دولة في الشرق الأوسط يمارس فيها المسيحي إيمانه وقناعاته وحرياته، وفي حال لم يتدخّل قداسة البابا سريعاً لإنهاء الأزمة اللبنانية من خلال مؤتمر دولي، فهذا يعني انّ الوجود المسيحي سيكون مهدداً بالزوال، وعامل الوقت يشكل أكبر استنزاف بطيء لهذا الوجود، لأنّ مَن تُفتح أمامه أبواب الهجرة لن يبقى في وطن محكوم بسياسات متخلفة، والفريق الآخر يراهن على عاملَي الوقت والخلل في الميزان الديموغرافي من أجل إنهاء التعددية وتغيير هوية لبنان التاريخية.

فالمبادرة لإنقاذ لبنان هي بيَد البطريرك الراعي الذي كان أوّل من أثار فكرة المؤتمر الدولي الذي يشكل الهدف الإنقاذي الوحيد للأزمة الوجودية اللبنانية، وإنّ عدم انعقاده يعني مواصلة الصمود والنضال بانتظار عوامل متغيرة في عالم متغيِّر، ولكن الخطورة الوحيدة والأساسية تكمن في عامل الوقت الذي يدفع الناس إلى الهجرة على أثر الانهيار المخيف الذي انزلقَ إليه لبنان، ومن ثم من غير الجائز ولا المقبول هذا التخلّي الدولي عن شعب يُناضل من أجل كرامته وحريته منذ عقود، وجلّ ما هو مطلوب من هذا المجتمع إمّا كفّ يد إيران عن لبنان، لأنّ الأزمة اللبنانية سببها إيران، وإمّا ضمان تنفيذ اتفاق الطائف بالقوة والذي تمنع طهران تنفيذه، وإمّا إرسال قوات دولية لترسيم الحدود بين لبنان الإيراني ولبنان اللبناني، ولا بأس في زمن الاستفتاءات التي أجراها الرئيس الروسي في أوكرانيا سَعياً لضَمّ أربع مناطق أوكرانية لروسيا الاتحادية، من إجراء استفتاء في لبنان برعاية أممية وتخيير اللبنانيين بين من يريد العيش تحت سقف دولة ودستور وقانون، ومن يريد العيش تحت سقف مقاومة وممانعة.